تحدّثت في مقال سابق عن (سايتك) - مركز سلطان بن عبد العزيز للعلوم والتقنية - الذي تتجسَّد رسالته في نشر مبادئ وأساسيات العلوم والإبداعات التقنية لكافة أفراد المجتمع، مع التركيز على الأطفال،من أجل توسيع مداركهم الذهنية وآفاقهم العلمية.....
******
وتشجيعهم على الاهتمام الدائم بمجالات العلوم ومسارات التقنية الحديثة، ليصبحوا قادرين على مواكبة المستجدات العلمية واستيعابها، ولإكسابهم الاتجاهات الإيجابية والقدرة والمهارة.
سايتك كان في البداية مشروعاً ضمن مشاريع مؤسسة سلطان بن عبد العزيز آل سعود الخيريّة، وقد تكلّف المركز ما يقارب 260 مليون ريال، ولقد أحسنت تلك المؤسسة الخيرية الرائدة، حين فطنت إلى أنّ أسرار النجاح لا تكمن فقط في جودة عملية البناء والتشييد والتجهيز للمركز، حتى لو كان ذلك مصحوباً بتمويل سخي، فالنجاح الحقيقي يعتمد بشكل محوري على مَن يضع الرؤية ومَن يحدِّد المعايير، ومَن يدير، وكيف؟، ولذلك فقد قدمت المؤسسة الخيرية سايتك ك (هدية) لجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، لكي تتولّى الجامعة إدارته وتشغيله، وفق رؤيتها ومعايير جودتها العالية وأنظمتها وسياساتها الدقيقة والمحفزة على الإنتاجية والابتكارية، وهنا بداية التميُّز لسايتك، وهو تميُّز نحسب أنّه سيزداد في أبعاده وتأثيراته، وفق ما نشهده من إنجازات ملموسة في وقت قصير، وكل ذلك يُحسب للقرار الذكي الذي أوكل المهمة لمن يحسن تأديتها، فجامعة البترول هي بحق من (المنظمات المتعلمة) The Learning Organization، وهي منظمة لا تحسن غير النجاح. وفي الآونة الأخيرة بدأنا نشهد قرارات مشابهة لما يمكن أن نسميه ب (الإسناد التنظيمي الذكي)، وتلك علامة من علامات (التعافي) من البيروقراطية والتقليدية في الأداء الحكومي، ولعلّ أبرز تلك القرارات على الإطلاق وأبعدها عن الإطار التقليدي، إسناد مهمّة الإشراف على (جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية) للشركة العملاقة (أرامكو السعودية) ... فهي شركة عالمية تجمع مقومات النجاح التنظيمي والمالي والتقني والبشري، مما يجعلنا نتفاءل كثيراً بتحقيق تلك الجامعة لمستويات عالية في أدائها العلمي والبحثي ... اتخذنا هذا القرار الجريء وسنجني ثماره قريباً متى توافرت بقية مقومات النجاح في تلك الجامعة الفتية.
وهنالك منظمة أحسب أنه يمكن لنا تطبيق ذات الشيء معها ... إنْ أردنا حقاً الرفع من مستواها وتحسين منتجاتها ... إنّها (المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني)، تلك المؤسسة التي أُنشئت عام 1400هـ وأنفق عليها بسخاء كبير وبمعدّلات متزايدة، مما جعلها تتوسّع أفقياً بشكل كبير خلال الفترة الماضية من خلال جهود مخلصة ومقدّرة من لدن الإخوة المسئولين في تلك المؤسسة ... ولكن الحل الذي ننشده لا يكمن في التوسُّع الأفقي فحسب؛ فتلك مهمة ليست عسيرة بالنظر للمخصّصات الكبيرة، بل يكمن الحل في التوسع الرأسي وتحقيق معدّلات الجودة المطلوبة وفق احتياجات السوق ومقاساته ... المؤسسة لم تَعُد تلك المنظمة الصغيرة التي تدرِّب مئات الأفراد، بل أصبحت منظمة واسعة تقوم على تدريب ما يزيد على 140 ألف متدرب ومتدربة في برامج متنوعة، ويعمل فيها قرابة 13 ألفاً من أعضاء هيئة التدريس والمدربين والإداريين والفنيين والعمال في وحدات تدريبية يقترب عددها من 150 وحدة تدريبية... كلُّ ما سبق يؤكد على أنّ المؤسسة لم تَعُد كما كانت... مؤسسة صغيرة، ومما يزيد من أهميتها اشتغالنا بتأسيس المشروعات الوطنية الاقتصادية الضخمة التي تتطلّب مئات الآلاف من التقنيين والفنيين المهرة...
إنّها مؤسسة مأمول منها إعانتنا على تشكيل مستقبلنا التقني في مجالاته المعقّدة ومساربه المتعدّدة، وهذا ما يفسر سر الاهتمام الكبير والمتزايد التي تحظى به المؤسسة من لدن أطراف كثيرة في المجتمع ... فالحكومة تدعم وتدعم بسخاء، ومجلس الشورى يناقش المسئولين في المؤسسة حول نقاط عدّة، وكتب وما يزال الكثير من المحللين والمتخصصين والكتّاب في الصحف والمجلات، وشرائح المجتمع تراقب عن كثب، فهي من يدفع التكاليف وهي أيضا من يقطف الثمار ... والاتجاه العام السائد هو ضعف الرضا عن أداء المؤسسة ومنتجاتها، ويمكنني إجمال أبرز الملاحظات على المؤسسة في أربعة مؤشرات مختصرة هي:
1- ضعف الإيمان بالجودة كقيمة محورية في التعليم والتدريب؛ مما جعل (الكمِّي) يغلب على (النوعي)، وهذا هو مكمن الداء الحقيقي.
2- عدم ملاءمة بيئة العمل والمناخ التنظيمي، الأمر الذي يفرز اتجاهات سلبية لدى العاملين تجاه العمل والمنظمة، تتمثل في انخفاض مستويات الرضا الوظيفي والانتماء التنظيمي.
3- الارتجالية وعدم الاستقرار وضعف القدرة على تصحيح الأوضاع والمسارات الضعيفة أو المتعثرة (ومنها التدريب المهني العسكري، التدريب المشترك).
4- كنتيجة حتمية لما سبق: نجد أنّ هناك تدنياً واضحاً في جودة المخرجات وعدم ملاءمتها مع متطلّبات السوق، الأمر الذي جعل الكثير من أبنائنا يفشل في الحصول على وظائف.المؤشرات السابقة - والتي نملك حولها الأدلّة والشواهد والممارسات - تؤكد على أهمية إعادة التفكير في كيفية الإشراف - الإدارة في المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، وأنا هنا لا أقلِّل من الجهود المخلصة المبذولة من قِبل الإخوة في المؤسسة في السنوات الماضية، فقد شرفت بزمالتهم، حيث عملت في المؤسسة لمدة تقترب من خمسة عشر عاماً، ولكنني هنا أميِّز بين:
* فلسفة وفكر ومعايير توصل إلى تحقيق الأهداف.
* وفلسفة وفكر ومعايير لا توصل إلى تحقيقها.
هذا ما نحتاجه فعلاً، هذا النوع الذكي من التمييز، وهذا هو ما جعل سايتك ينجح، وما جعل جامعة الملك عبد الله تتوفّر على مؤشرات كثيرة للنجاح والتميُّز كما في رؤيتها وأهدافها واختياراتها الدقيقة لطاقمها الإداري والعلمي... ولهذا فإنني أرى، ومن خلال خبرتي التراكمية في التعليم التقني عموماً والمؤسسة خصوصاً، أنّ من أفضل السُّبل لتحقيق الجودة المنشودة في التعليم التقني - بأبعادها الإدارية والتنظيمية والتقنية والفنية - على نحو يحقق أهدافنا الحقيقية، ويصنع لنا أجيالاً تقنية مؤهّلة، هو إسناد أمر الإشراف المباشر على المؤسسة لجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، فهي منظمة مرموقة، كما أنها متخصصة بالعلوم والتقنية، وتعمل الآن على تأسيس تحالفات إستراتيجية مع كبرى الشركات العالمية داخل إطار مشروع (وداي الظهران للتقنية)... وهنا قد يتساءل البعض أو يحتج على هذا الاقتراح بالقول بأنّ هذا الإشراف سيكون عبئاً على الجامعة... وأنا أقول هو عبء مبرر، ثم إنه ليس كبيراً... فالذي نفتقر إليه هو فكر الجامعة ومعاييرها وأنظمتها... وهذا لا يتطلّب سوى تأسيس إدارة أو حتى وكالة للجامعة للتدريب التقني وتكليف بعض طاقمها بإدارتها. فهل نشهد قراراً في ذلك الاتجاه؟... هذا قرار جريء وذو نزعة ابتكارية؛ قرار يصب في دائرة التفكير خارج (الصندوق البيروقراطي)، ويحقق الصالح العام وفق مقتضيات (التجرُّد) للصالح العام والتلبُّس ب (المرونة التكيفية)، بل نحتاج إلى ما هو أكثر من تلك المرونة، فالديناميكية التي تتّسم بها العلوم والتقنية، وما يحيط بها من عوامل المنافسة الشديدة، يحتم علينا الاتصاف ب (فكر المبادأة) القائم على النظرة الإستراتيجية المحكمة، والتي تُعَد سمة محورية لنجاح المنظمات في عصر المعرفة وتقنية المعلومات... على أقل تقدير دعونا نجرب بعض الوقت ... وأنا واثق من النجاح، فالنتائج ُتعرف من مقدماتها...، وهنالك مسائل ربما تحتاج إلى تفصيل على ضفاف هذا الموضوع الهام، ولعل ذلك يكون في مناسبة لاحقة!
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب 5141 ثم أرسلها إلى الكود 82244
beraidi2@yahoo.com