Al Jazirah NewsPaper Monday  07/04/2008 G Issue 12975
الأثنين 01 ربيع الثاني 1429   العدد  12975
حرية التعبير وحق التخوين والتكفير
د. عبد الرحمن الحبيب

يحتدم الجدل في الساحة العربية حول مسائل الحريات والحقوق.. ويتراوح هذا الجدل من فئات ترفض مفاهيم الحرية بشكل عام إلى فئات تطالب بكافة أنواع الحريات (العامة والخاصة، المدنية والدينية..)، وبينها فئات تضع شروطاً صارمة للحريات، وأخرى تضع شروطا مخففة.....

*****

وأخرى توافق على حريات دون غيرها..إلخ.. وتطالب فئة أخرى برفع القيود عن التعبير الحرّ.. وينادي طرف بمعارضة اللبراليين النافذين في المؤسسات الإعلامية والثقافية، فيما ينادي طرف معاكس بمعارضة المحافظين المتشددين النافذين في المؤسسات الدينية والتربوية..

وفي ظل هذا الجدل، ينبغي التذكير أن إحدى القواعد الأساسية في حقوق الإنسان هي حق حرية التعبير للجميع. وكما هو معروف فإن لكل قاعدة استثناءاتها.. والاستثناء هنا أن حق الحرية ينتفي إذا اعتدى على حقوق الآخرين وحرياتهم، بمعنى أن الحرية تتضمن المسؤولية وتترادف معها ضوابط.. هذه الضوابط هي المفصل الخلافي الشاسع بين وجهات النظر والتيارات الفكرية المتشاحنة حالياً، والتي ظهر فيها دعاة مهمون يلقون تهم التخوين والتكفير وفقاً لآلية يرون أنها سليمة ومنضبطة منهجياً.

تتميز المرحلة الراهنة بارتفاع سقف حرية التعبير وتنوع وسائل الإعلام والثقافة، ومع حدة الاستقطابات الفكرية، ظهرت فوضى نسبية في إطلاق التهم بين الفرقاء، أساسه اجتهادات فردية متناثرة بطريقة عشوائية بسبب عدم وجود آلية محددة ومُحكمة للتخوين، أو بالأحرى عدم فاعلية الآلية القديمة، مما يتطلب ضبطاً منهجياً أو تشريعياً جديدا.. لكن أصحاب النظرة القديمة سيصرون على اتباع ما درجوا عليه، والعكس صحيح لأصحاب النظرة الجديدة.

لكن ماهي الحدود والضوابط التي ينبغي وضعها للتعبير العلني عن وجهة النظر؟ وما هي الوسائل لوضعها؟ وكيف يمكن وضعها؟ والإجابة على هذه الأسئلة تتطلب وضوح الرؤية للعديد من المفاهيم المرتبطة بالحقوق، مفهوم حرية الرأي والتعبير، ومفهوم الرقابة على الأفكار، ومفهوم إطلاق الأحكام على النص المكتوب أو على الكاتب، ويحتاج للوعي بمفاهيم النقد وما يشمله من تصنيف للآخرين أو أفكارهم.

فعلى سبيل المثال، إذا كانت طبيعة النقد تتضمن إطلاق أحكام وتصنيف، فإن هذه الأحكام النقدية ينبغي أن لا تكون خارج إطار الرأي النقدي، حتى وإن كان حاداً، لأن المهم أن لا تدخل الأحكام النقدية في إطار إطلاق التهم وتحديد العقوبات فتلك مهمة جهات أخرى كلجان الرقابة أو المحاكم القضائية أو غيرها من الجهات النظامية الرسمية.. فالأحكام النقدية مختلفة تماماً عن الأحكام القضائية، فليس من حق فرد إطلاق تهم على كاتب كالتخوين أو العمالة لجهات أجنبية أو الرشوة؛ فتلك مهمة جهات أمنية لها دورها في هذا المجال، وليس من حق فرد إطلاق حكم بالتكفير مع تحديد عقوبة بتفاصيلها وكأنه يرأس محكمة فيها ادعاء ومتهم وشهود ومحامين..الخ، هذا خلال فاضح في فهم النقد أو في طريقة رفض آراء الآخرين.. حق حرية التعبير لا يمنح حق الاتهام التشهيري، فذلك يعاقب عليه كل الأنظمة في كل الدول والمجتمعات المستقرة، والأخطر حينما يوضع مع الاتهام تحديد لعقوبة، فهذا تأصيل فكري للإرهاب وتشجيع على الفوضى..

بالعودة لذات السؤال الكبير المتفرع: ما هي الضوابط والوسائل والكيفية التي ينبغي وضعها؟ يأتي السؤال الأولي: من هي الجهات المخولة والقادرة - معرفياً ونظامياً - على وضعها؟ في واقعنا السعودي ومن الناحية الفكرية، أعتقد أن من أفضل الجهات مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني.. فالمركز يستطيع أن يجمع المختصين والمعنيين من القانونيين والفقهاء والحقوقيين والمثقفين والدعاة والكُتّاب للمشاركة في حوارات ونقاشات موضوعية وواقعية تثمر رؤى وتصورات أولية على اتفاق - ولو بالحد الأدنى- على مفاهيم الحقوق والحرية والنقد.. ويمكن بعد ذلك رفع توصيات تشكل رؤية للجهات النظامية التي يمكنها تكوين مرجعية قانونية أو تشريعية جديدة تحدد ضوابط هذه العملية.

من أهم القضايا التي ينبغي إثارتها في هذا المجال النقاش حول مفهوم الحرية، خاصة الحرية الفكرية وحرية التعبير عنها، وذلك سيرتبط مع شبكة أخرى من المفاهيم كالشريعة والقانون وحقوق الإنسان والسلطة والواقع الاجتماعي والمصلحة العامة.. لا بد من تحديد معنى الحرية أو معاني الحرية.. ربما أن المتفق عليه أن الحرية تعني غياب الإكراه والقيود التي يفرضها طرف آخر؛ والإنسان الحر هو القادر على اختيار هدفه وطريقته، وغير المرغم على اختيار ما لا يريد اختياره..إذن ركنا الحرية هما غياب الإكراه ووجود الاختيار، هذا حد أدنى يمكن الاتفاق عليه..

وهذا يقودنا إلى بحث مسألتي الإكراه والاختيار.. فإذا كان أفراد وجماعات المجتمع مسيطراً عليها بصرامة من خلال نظام تربوي وإعلامي وثقافي واحد وحيد، فإن غالبية الأفراد لن تستوعب أطروحات الخيارات الأخرى ولا تتقن إلا نظاماً واحداً أصبحت متآلفة معه، وبالتالي لا تشعر أنها مكرهة عليه.. ومن هنا يعلن المحافظون عدم وجود الإكراه، ويطالبون بالمحافظة على الوضع لأن الغالبية ترغب به واختارته باستثناء الأصوات النشاز.. ومن ثم يرى المحافظون أن الحرية موجودة نظراً لغياب الإكراه ووجود الاختيار.. لكن المجددين يرون أن الإكراه موجود عبر عدد غير قليل من الأنظمة والوسائل، وكذلك يرون أن الاختيار غير مكتمل الشروط وغير حر؛ لأن الخيار الوحيد المسيطر لا يمنح الخيارات الأخرى غير حيز ضيق وفي مجالات محددة دون سواها، مما يحرم غالبية أفراد المجتمع من القدرة على تحديد حكمهم على هذا الخيار أو ذاك.

وهذا أيضا يقودنا إلى مسألة اكتمال شروط الاختيار الحرِّ.. فحتى في أكثر المجتمعات تحرراً يتم التأثير على قدرة أفراد المجتمع على الاختيار من خلال وسائل التعليم والإعلام والثقافة التي تسيطر عليها مجموعات ذات النفوذ الاقتصادي والسياسي.. وهنا ندخل في موضوع شروط الاختيار الحر، كالاختيار بوعي ومعرفة مكتملين دون تسلط وسائل التوجيه المباشرة وغير المباشرة.. وكتأمين أساسيات المعيشة، لأن الفقر والجهل والمرض تحرم المتعرضين لها من القدرة أو امتلاك الوسائل التي تحقق اختياراتهم المرغوبة.

المحك الأساسي في كل هذه الجدلية هو أهمية وضع ضوابط وآلية وعدم التفرج على التهم التي تلقى جزافا، والتعامل مع واقع الحال بما يتضمن ضبط معادلة: المصلحة العامة، العدالة، الحريات العامة والخاصة،.. ضبط هذه المعادلة واقعياً وما يرتبط معها من فروع وتفاصيل يتم عبر اتفاق أصحاب التأثير الفكري وأصحاب القرار الرسمي.



alhebib1@yahoo.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد