الرؤى والأحلام تمتلك خصائص معينة، فمادتها متسامية نائية خالية من الأطر والضوابط، تنبثق في ذهن العظماء والمفكرين فجأة كغيمة عظيمة نابضة بالخير.
يبقى على المجموع استغلال معجونها الخام، وتربتها الواعدة، وتحويلها إلى مشروع قابل للتطبيق والتداول على مستوى الواقع.
وهذا هو الأس الذي يقوم عليه التخطيط الاستراتيجي في مقاربته الرؤى الكبيرة والأحلام الشاسعة للتدرج بها نزولاً من المتسامي لتحويلها إلى آلية عمل محسوسة وفاعلة في حياة البشر.
أي ما يسمى بمأسسة الأفكار؛ فالأفكار العظيمة التي تمثل منعطفاً مهماً في حياة الشعوب لا بد أن تتلقفها الأيدي الوطنية المخلصة، وتعمل عليها، وتستزرع بذورها، وتخصب تربتها، وتتعهد حقولها بالرعاية والسقاية، وبالتالي توجد لها القنوات، والمحاضن التي تكفل لها ليس فقط الديمومة والاستمرار بل النمو والتطور، بحيث لا ترتبط بشخص واحد أو فكرة مرحلية زمنية، بل تتحول إلى عمل مؤسساتي جماعي يقدم منتجه بصورة مستمرة لا تخبو بغياب فرد، أو جماعة.
ولعل الفكرة التاريخية العظيمة التي قدمها خادم الحرمين لشعبه من خلال سعيه إلى (حوار الأديان) تمثل الفكرة المنعطف في تاريخ المملكة العربية السعودية ابتداء من مطالع التأسيس في مشروع الدولة وارتباطاتها الأيديولوجية، وانتهاء باليوم وعضوية المملكة بالمجتمع العالمي وبقية منظماته الدولية.
هذه الدعوة الشامخة التي أشرعها قائد تاريخي تستوجب عملاً مؤسساتياً يتلقفها ويفتق روحها ويستخلص رحيقها، ويسعى إلى غرس بذورها في المكان.
تماماً كفكرة الحوار الوطني؛ فلولا وجود مركز الحوار الوطني الذي تلقف مبدأ التعايش والحوار بعد أن أزهر في مرحلة الإصلاح وحوله إلى عمل مؤسساتي منظم، يدخل كل بيت ويطرق كل باب، ويسعى إلى كل منشأة حكومية، كل هذا تحت مظلة الوطن، حيث تندمل جروح الطائفية والمناطقية ونبرة النبذ والإقصاء والتصفية والاستبعاد، وتستبدل بالحلم الوطني الذي بدأ كرؤية أزهرت على غصن خادم الحرمين الشريفين, ما كنا لنرى الشيخ سلمان العودة والشيخ حسن الصفار يتجاوران في حديث ودي طويل حول مائدة الوطن، وما كنا سنرى أيضا مدينة (عنيزة) الفاتنة تشرع بواباتها للمواطن السعودي سماحة السيد (النمر)... وما كنا سنقرأ للوالد الفاضل د. محمد عبده يماني يكتب عن يوم المولد النبوي الشريف بهذه الصورة الروحانية الأخاذة ... وما كنا سنتعرف على المواطنة النبيلة من نجران (زكية أبو ساق) في أحد لقاءات الحوار الوطني... لولا الأكسجين النقي الذي بثه الحوار الوطني في الفضاء حولنا.
رؤية الحوار بين الأديان العظيمة - الرؤية المنعطف... لا بد أن تُمأسس وتتلقفها الأيدي الوطنية المخلصة لتتحول إلى آلية عمل طويلة المدى، فلا تنحصر بمؤتمر تتلاشى آثاره بانتهاء جلسات المؤتمر وطوي صفحة التوصيات.
ولاسيما أن التربة التي ألقيت فيها تلك البذور الذهبية ممحلة جافة مليئة بأملاح الشك والجفاف والبُغض والكراهية، وسط صحراء اعتاد أن يصول ويجول فيها كائنات الظلام ومروجو الموت.
لا بد من مأسسة دعوة (حوار الأديان)؛ فهي المركب الذي سيُقلّنا إلى ضفاف المستقبل.