ولكل تفكير منهما وجهة هوموليها، شتان بين تفكير سلبي ينحصر في البحث عن وسائل نابذة تعطل مبدأ التفكير نفسه، ويبتكر منطلقات تهمش العقل، وتقصي المخالف، وتثأر لغضبة جاهلية لا يسندها حق أوشرع أومرجعية دينية مسئولة، وبين تفكير إيجابي يحترم العقل والنقل معاً، ويصل بالإنسان إلى التصالح مع ذاته ومحيطه، وإلى مرحلة من التوازن المنتج والمنضبط في الحياة.
* تفكير التكفير هاجس متجرد من منطقيات التفكير السليم، لا يمكن بحال من الأحوال أن يخرج من شرنقة الكراهية السوداء التي تكبل العقل، بل وتحبسه في دائرة مظلمة، لا مجال فيها لغير الحط من قيمة الإنسان، والانتقاص من أهليته في الأخذ والعطاء، وشن الحرب الظالمة عليه بسلاح التكفير مع نيران بغيضة (غير صديقة)، من الشتائم التي تسبق صاعقة التكفير، مثل الفجور والضلالة والفسق والزندقة والتحرر الجنسي والعلمنة واللبرلة، وغيرها من قاموس الردح الذي لا نهاية لمفرداته. التكفير المنطلق عبر الفتاوى المنفلتة من عقال المرجعية الرسمية، هو مولود طبيعي للكراهية والظلامية والغلو في الدين.
* إن مصيبتنا مع التكفيريين في زماننا هذا تقوم في الأساس على الخوف من التفكير العقلي المنطقي، والرغبة في محاصرة الفكر الإنساني، وإحاطته بسياج من المحرمات والممنوعات التي لا تقوم على أسس دينية متفق عليها، ولا تدعمها حجج شرعية ثابتة. لوأنا راجعنا قاموس (تراجعاتنا التاريخية) في كثير من المسائل الفقهية المختلف عليها، والتي سرعان ما تهاوت من سماء التحريم والتكفير والتبديع والتفسيق إلى واحات التفكير والتسهيل لوقفنا على كم هائل غير مسبوق في هذا السياق يكفي لأخذ العبرة والاتعاظ لوكنا نتعظ ونعتبر، فالبرقيات، واللاسلكي، والإذاعة، والتلفزة، وعمليات التنقيب عن النفط، و(دش) الفضائيات، وتعليم البنات، وعمل المرأة.. وغير ذلك كثير أصبح اليوم مما هومباح، ويدخل في صلب حياتنا اليومية، ويبرز في قلب المشهد الاجتماعي والثقافي، ومن غير المتصور أبداً أن ينبري أحدهم اليوم ليجرم ويحرم شيئاً من ذلك، ويزندق ويفسق ويكفر من يعتقد بذلك، أويقول عن الإذاعة السعودية بأنها حرام، ومن عمل الشيطان، وأن مشاهدة التلفزة وتعليم الفتاة والبرقيات من المحرمات، ومن يقول بغير قوله هذا فهوكافر..! لوظهر أحدهم هذا بهذه الصورة اليوم لما وجد من يصغي لكلامه لأنه من تاريخ قديم، وفي زمن غير زمانه. لقد شكلت هذه المواقف في وقتها، ردة حضارية معلنة، ومعاداة لما هو جديد من نتاج العقل البشري، وما زالت هناك بقايا منمطة من أعداء الحريات تعمل على تحييد العقل وإقصائه خوفاً من النقد الذي هو منتج فكر وعقل، ودفاعاً عن النقل وكأنه موضع شك، ومع ذلك.. فقد ظلت حصون التكفير تتهاوى، وحججه الضعيفة تتساقط الواحدة تلوالأخرى، وسوف تبقى كذلك، لأن هذا هو مصيرها المحتوم.
* إن إطلاق أحكام التكفير تحت طائلة طريقتنا المتبعة في استحلاب واستجلاب الفتاوى الموغلة في التشدد من أجل إثارة الفتن، وتأليب الرأي العام، والانتقام من هذا، وتصفية الحسابات مع أولئك هي عملية غاية في السوء لأنها تشكل حرباً معلنة على عقول الناس، وفيها تعطيل لملكات التفكير التي أعطاها الله لآدم عليه السلام وذريته دون سائر المخلوقات. قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}الأنفال 22. فكان الإنسان من غير هذه الدواب الصم، بل هوفوقها جميعاً، لأنه يعقل ويفكر، والعقل المفكر في الإنسان ميزة اختص الله بها هذا الإنسان، والعقل المفكر في هذا الإنسان، والمستهدف عبر العصور من شظايا التكفير هو الذي حض القرآن الكريم على تشغيله واستخدامه في كثير من الآيات. قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}العنكبوت 20. و{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يونس (101). و{أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ}لأعراف 185. و{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ}الروم 8. و{أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}النحل (79).
* لقد كان نهج القرآن الكريم في كثير من آياته الكريمات هو الدعوة إلى استخدام العقل، والتحريض على التفكير، والحث على النظر والملاحظة والبحث: أفلا يعقلون، أفلا يتفكرون.. فلم يقر الإسلام الحجر على العقول، ولم يشرع الوصاية على أصحابها، ولم يجعل بين الله والناس، وسيطاً منهم يفكر عنهم، ويفرزهم ويصنفهم، فضمت النصوص القرآنية عدداً من المفردات الدالة على العقل وعمله، والتفكير ونمطه: (التفكير - القلب - الفؤاد - اللب - النظر - الرشد - العلم - التذكر - الحكمة - الرأي - الفقه) وغيرها.
* لو لم تفكر البشرية طيلة وجودها، ولم يُعمل الإنسان عقله وبصره ورشده لما توصلنا بهذا الإرث الحضاري المدهش، ولما وصل إلينا هذا التقدم العلمي الهائل في كافة مناحي حياتنا، ولظل الإنسان تائهاً عن نفسه، هائماً على وجهه في الغابات مع بقية الحيوانات، يأكل من ثمر الشجر وورقه، ويشرب من ماء المستنقعات حوله، لكن الإنسان الذي استخدم عقله وفكره، تعالى وهو ينظر إلى أعلى، وتقدم حين ركز نظره إلى الأمام، وهذا من أسس ديننا الحنيف الذي هو دين عبادة وعمل وحياة، فالمصطفى صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه قال: (تفكّر ساعة، خير من عبادة سبعين سنة). وهو القائل: (أول ما خلق الله تعالى العقل، فقال له: أقبل.. فأقبل. ثم قال له: أدبر.. فأدبر. فقال عز من قائل: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أعز علي منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أحاسب، وبك أعاقب). وهو القائل كذلك: (أيها الناس.. إن لكل شيء مطية، ومطية المرء العقل، وأحسنكم دلالة ومعرفة بالحجة، أفضلكم عقلاً). ثم.. وهذا من ضرورات الدين: (قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له). والخليفة الراشد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: (لا علم كالتفكر)، وعبد الله بن المقفع يقول: (الفكر مفتاح القلب). والشيخ المجدد محمد عبده- رحمه الله- كان يقول: (ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد. والأمر الثاني إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير...). فكيف نرضى إذن، بالحرب على عقولنا، وبالحجر عليها، وتعطيل التفكير فينا بالتكفير منا..؟!
* من أقوال الفيلسوف (ديكارت): أنا أفكر.. إذن أنا موجود. ولأن مدار التفكير العقل فإن من يملك العقل ويفكر بحرية دون خوف يملك حق الوجود في هذا الكون الفسيح، وليس غير ذلك ولا بديل عنه سوى الجنون. ديكارت الذي مات سنة 1650م، عاش في عصر تسلط الكنيسة وجبروتها، وسطوة مفتشيها الدينيين، وقسوة (محاكمها التفتيشية) التي كانت تُنصب لمحاكمة المفكرين والمبدعين وقتذاك بدعوى (الهرطقة).. أي الزندقة والكفر، وكان المكتشف (جاليلو) واحداً من ضحاياها، فقد اتهم بالكفر، لأنه قال بدوران الأرض، ونصبت له محاكمة شهيرة سنة 1632م. إن تاريخ الكنيسة في العصور الوسطى ملطخ بأحكام التكفير، ويحمل الكثير من صور الممارسات التعسفية غير الإنسانية، والحرب المعلنة على عقول البشر بحجة الهرطقات الدينية.
assahm@maktoob.com