من سبأ جاء نبأ يقين، وهو اتفاق حركتي حماس وفتح على المبادرة اليمنية. وبالرغم من التجارب المؤلمة للاتفاقات الفلسطينية الداخلية بما فيها مواثيق شرف أقسموا عليها اليمين، إلا أن الخبر أسعد كل بيت فَقَد شهيداً أو جريحاً أو أسيراً على يد العدو أو بالحرب الداخلية، أو فَقَد أرضاً بالاستيطان أو هُدم له منزل أو فَقَد عملاً، أو فَقَد الأمل بالغد.. خبر أسعد كل فلسطيني وعربي ومسلم، وكل محب للعدالة. والعدالة لا تتجلى بقضية مثلما تتجلى بالقضية الفلسطينية، بعد كل ما جرى لمشروعنا الوطني على يد العدو ثم على يد من صيرناهم أولي أمرنا، وبعد أن تأكدت - أو نرجو أن يكون ذلك - حركة حماس وسلطتها وحكومتها في غزة أن الحسم العسكري في غزة لا يؤدي بالضرورة للحسم السياسي وطنياً، ولا يحقق نصراً بل لا يعد بحد ذاته إنجازاً وطنياً؛ حيث يبقى السؤال مشرعاً: وماذا بعد السيطرة على قطاع غزة؟ وبعد أن تأكدت السلطة الوطنية وحكومتنا أن إسرائيل وأمريكا وظفا التصدع في الساحة الفلسطينية ليس من أجل القضاء على نهج المقاومة فقط بل للقضاء على خيار السلام الفلسطيني وعلى كل محاولة لبناء مؤسسات وطنية وأمن وطني حتى على مستوى الضفة، وبعد أن أصبح كل يوم يمر إلا ويرسخ التجزئة والانفصال بين غزة والضفة، ليس فقط على المستوى المؤسساتي والوظيفي بل أيضا على المستوى النفسي والثقافي.. بعد كل ذلك بات واضحاً ألا فرصة لنجاح المشروع الوطني سياسياً كان أم مقاوماً إلا في إطار وحدة وطنية واستراتيجية عمل وطني، وفي إطار قرار وطني مستقل؛ حيث لا مجال للحديث عن استراتيجية عمل وطني ما دام القرار السياسي مصادراً أو خاضعاً للوصاية.
الحوار كفكرة وممارسة بين حركتي حماس وفتح ليس بالأمر المستحدث، بل يعود إلى عقدين من الزمن، أي منذ أن ظهرت حركة حماس كحاملة لمشروع سياسي إسلامي مغاير للمشروع الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، وحيث إن الحوارات والتفاهمات بما فيها الاتفاقات المكتوبة سواء التي تم التوصل إليها قبل أن تصبح حركة حماس جزءاً من السلطة والنظام السياسي، بعد انتخابات يناير 2006، أو التي تم التوصل إليها بعد ذلك بما فيها تفاهمات مكة التي أثمرت حكومة وحدة وطنية، كلها حوارات آلت للفشل. معنى هذا أن الخلاف له أبعاد متشعبة، خلاف حول الثوابت والمرجعيات، حول مفهوم الدولة والسلطة، ومفهوم السلام والمقاومة، خلاف حول الاعتراف بإسرائيل وبالاتفاقات الموقعة والشرعية الدولية، وخلاف حول السلطة.. إنه خلاف استراتيجي سياسي وأيديولوجي..
الحديث عن الخلاف، هل أن المبادرة إطار للتنفيذ أم للحوار مرتبط أساساً بالبند الأول؟ وفي واقع الأمر فإن هذا البند ملتبس وغامض ويحتاج إلى حوار معمق أو لإرادة وحُسن نية. إذا وضعنا جانباً المعيقات المتعلقة بغياب استقلالية القرار لكلا طرفي المعادلة بالرغم من أهميتها، حيث الجغرافيا السياسية تجعل الموافقة الإسرائيلية شرط ضرورة لعودة التواصل بين الضفة وغزة، وحيث الاقتصاد السياسي يجعل الموافقة الأمريكية والدولية، وهي الجهات المانحة، شرطاً أساسياً لقدرة السلطة وأي حكومة ستشكل على القيام بمهامها، والأيديولوجيا السياسية تجعل الموافقة الإيرانية والسورية ومراكز الإسلام السياسي الخارجي شرطاً لا يمكن تجاهله، حيث الدعم المالي والسياسي والعسكري لحركة حماس، إذا تجاوزنا ذلك مؤقتاً واعتبرنا أن القرار بيد حركتي فتح وحماس فلنا أن نتساءل: ما هي الفترة الزمنية المطلوب الرجوع إليها، التي عندها يمكن القول إن الخلاف أو التصدع قد انتهى أو قابل للانتهاء؟ إذا كان الجواب هو يوم العودة لحكومة الوحدة الوطنية، فإن هذه الحكومة كانت مأزومة، وشهدت أسوأ حالات الفلتان والقتال الداخلية مع استمرار الحصار على الضفة وغزة، وسقطت هذه الحكومة بانقلاب حماس بالحسم العسكري، وعليه لا يجوز العودة إلى وضع مأزوم؟ وإذا قلنا العودة لما قبل حكومة الوحدة الوطنية، وهذا معناه العودة لحكومة حماس التي أدى فشلها والحصار المفروض عليها وعلى الشعب إلى حالة الفوضى والانفلات الأمني الذي دفع الأطراف لتوقيع وثيقة الوفاق الوطني ثم الذهاب لمكة.
نعتقد أن المطلوب - إن توافرت النوايا الصادقة للمصالحة - ليس العودة لوضع سياسي في فترة معينة؛ لأن النظام السياسي مأزوم منذ وجود السلطة الوطنية، بل قبل ذلك منذ أن وجدت حركة حماس كمشروع سياسي مغاير للمشروع الوطني. وحيث لا يوجد وضع مثالي يمكن الرجوع إليه يصبح المطلوب ليس العودة بالمفهوم الزماني بل العودة بالمفهوم الموضوعي، العودة إلى حالة جديدة، وهي اتفاق على الثوابت الوطنية والعودة لوثيقة الوفاق الوطني بعد تخليصها من الصياغات العامة والمبهمة، ووضع النقاط على الحروف حول القضايا الخلافية الرئيسية التي لم تأخذ حقها من الاهتمام في لقاء مكة، والتي هي في نظرنا ليست المقرات الأمنية أو توزيع الحقائب الوزارية، بل الموقف من منظمة التحرير كممثلة للشعب الفلسطيني وبرنامجها والاتفاقات التي وقعتها بما في ذلك الاعتراف بإسرائيل. حل حكومة غزة أو حل الحكومتين لن يحل المشكلة، عودة الأجهزة الأمنية والمعابر للرئاسة لن يحل المشكلة أيضاً، وإجراء انتخابات مبكرة قبل الاتفاق على ثوابت ومرجعيات النظام السياسي لن يحل المشكلة أيضا؛ حيث ستولد الانتخابات أزمة جديدة كما جرى مع الانتخابات التشريعية الأخيرة التي بدلاً من أن تُخرج النظام من أزمته فاقمت هذه الأزمة.
الخلاف حول إن كانت المبادرة اليمنية هي إطار للحوار أم بنود للتنفيذ يخفي نوايا عند الطرفين أو أطراف في الطرفين بالهروب من المصالحة الوطنية؛ لأن المصالحة تتطلب أن يعترف كلا الطرفين بأنه مأزوم ويتحمل جزءاً من المسؤولية عما آلت إليه الأمور. السلطة وحركة فتح تكابر ولا تريد أن تعترف بأن السنوات الاثنتي عشرة من حكمها ثم الحكومة التي شكلتها بعد انقلاب غزة لم تنجز تقدماً نحو الدولة الفلسطينية، والمفاوضات التي ربطت نفسها بها أصبحت لا تقل عبثية عن عبثية الصواريخ. وحركة حماس لا تريد الاعتراف بأنها لا يمكن أن تكون سلطة وحكومة تسعى للاعتراف والدعم الدولي دون أن تعترف بالقانون الدولي وقراراته وشرعيته، وأن تعترف بإسرائيل كدولة يعترف بها كل العالم تقريباً بما فيها غالبية الدول العربية والإسلامية، وأن ممارسة المقاومة خارج إطار القانون الدولي والشرعية الدولية سيؤلب عليها وعلى القضية من الأعداء أكثر مما ستنجزه للمصلحة الوطنية.
وأخيراً، يمكن القول إن هذا البرنامج الوطني واستراتيجية العمل الوطني، حيث لن تكون مصالحة حقيقية ولا مشروع وطنياً بمعنى الكلمة بدونهما، لا يعنيان التخلي عن الحق بالمقاومة ولا التخلي عن خيار السلام، إنه برنامج يحرر المقاومة من عبثية الصواريخ، ويحرر خيار السلام الفلسطيني من عبثية المفاوضات الجارية.
Ibrahem_ibrach@hotmail.com