كيف يفكر طلابنا؟
هذا سؤال محوري يجب أن نلتفت إليه، فدورنا كأساتذة في الجامعة أو المدرسة أو حتى في مؤسسات أخرى كالإعلام والأسرة وغيرها..
.. يجب أن يكون ضمن أهدافه تعليم الطلاب مناهج التفكير، أي كيف يفكر الطالب.. البعض يرى أن هذا العمل ثانوي، ولا يقع ضمن أولويات التعليم، ولكن في نظري أن طريقة ومنهجية التفكير هي من الأولويات، حيث ستعطي الطالب قدرة وآليات وطرق يمكن من خلالها الحكم على الأشياء أو الوصول للحقائق.
وغياب مثل هذه الآليات سيجعل التفكير عشوائياً أمام الفرد فقد يصل أو لا يصل إلى الحقائق الاجتماعية، وقد يصل ولكن من خلال طرق غير مناسبة، وقد يصل بنتائج عكسية لما تفرزه طرق ومنهجيات التفكير الصحيحة.. ومن هنا فإن مادة الفلسفة تغيب عن مناهج الدراسة والبحث في الجامعات ناهيك عن المدارس في التعليم العام قد تكون هي أحد أسباب القلق الفكري، والتفكير العشوائي لدى شرائح معينة في مجتمعنا.
وكثير من دول العالم تقرر الفلسفة في السنوات الأولى من التعليم العام، حيث بعض الدول تقرر الفلسفة من الصف الثالث ابتدائي. ولربما أن تدريس الفلسفة سيترك آثاره الكبيرة على طرق التفكير لدى شرائح الطلاب بمختلف مراحلهم الدراسية. وسيُهَيَّأ الطالب إلى مرحلة نضج مهمة يحتاجها الطالب في الجامعات عندما ينخرط فيها.
أما الجامعات فتحتاج إلى مقرر أساسي عام يُعطَى لجميع طلاب وطالبات الجامعة، يبني لديهم كيفية التفكير، ويُعمِّق لديهم الرؤية النقدية تجاه الأشياء.. ومن الملاحظ أن نسبة من شباب الجامعات لا تستطيع أن تتحاور بطريقة مناسبة، فالفلسفة تعطي بعداً عميقاً لفهم الأشياء وقراءتها قراءة صحيحة.
الفلسفة ليست مجرد موضوع مثل التاريخ أو الجغرافيا أو الأحياء أو غيرها من العلوم يبدأ وينتهي بمعارف يتلقاها الطالب على شكل معلومات، بل تتعدى ذلك فهي منهج علمي يساعد الشخص على فهم العالم والمحيط الذي يعيش فيه. فهي أشبه بتعلم مهارة، وهذه المرة ليست مهارة يدوية أو حرفية، بل هي مهارة فكرية، فالفلسفة تُنظِّمُ التفكير، وتبني تصنيفات وتقسيمات داخل العقل، يستطيع بموجبها أن يفهم ما يدور حوله - وبعيداً عنه - فهماً عميقاً.
ولا شك أنَّ مَنْ يتحفظ على مادة الفلسفة في مدارسنا وجامعاتنا، يرى أن هناك أسئلة تتعارض مع أحكام الشريعة، ولربما تُدْخِلُ الشخص في متاهات دينية، لا يستطيع التجاوب معها، ولكن يمكن أن نوظِّف الفلسفة فيما يخدم أهدافنا الاجتماعية ويؤسس لفكر مستنير، وعقول ناقدة، ويؤسس لمرحلة جديدة من التعلم الذاتي الذي يجعل من الطالب أو الطالبة قادرينِ على توظيف الأدوات العقلية في فهم المكان والزمان اللذين يعيشانِ فيهما. إضافة إلى كون هذا التوجه قد يعطي القدرة على التحاور مع الآخر بطريقة علمية بعيدة عن التشنجات أو الحكم المسبق على الأشياء والمواقف.
وفي دراسة على طلاب مرحلة ابتدائية في الولايات المتحدة، أُعطي أطفال في حدود العشر سنوات دروساً بسيطة في الفلسفة لمدة ستة عشر شهراً، وكشفت النتائج أن هذه المجموع سجلت قدرة أكبر على الأداء الأكاديمي مقارنة بعينة ضابطة أخرى تم اختيارها لهذا الغرض. وبعد سنوات أشارت الدراسة إلى استمرار تقدم طلاب الفلسفة في اللغة والأرقام والمقدرات العقلية على أقرانهم ممن لم يتعرضون لدروس الفلسفة.
وقد بدأت جامعة الملك سعود في وضع مقرر مهارات التفكير، وهذه خطوة إلى الأمام، رغم عدم معرفتي بتفاصيل كاملة عن هذا المقرر الجديد الذي سأتحدث عنه هذا العام ضمن مقررات السنة التحضيرية لبعض كليات الجامعة.
والسؤال: هل هذا المقرر هو مقرر فلسفة أم هو مقرر أقل من ذلك؟ وفي كلا الحالين فإن توجهاً مثل هذا يعكس فعلاً الاحتياج إلى بناء مقررات مهارات فكرية للطالب الجامعي، ونتمنى أن تحذو مؤسسات التعليم العام نحو هذه الخطوة في اتجاه تطويرمهارات التفكير لدى طلابنا في المراحل المختلفة. وفي نفس الموضوع، يجب التوضيح أن قسم الفلسفة الموجود في جميع جامعات العالم بلا استثناء تقريباً، يغيب عن جامعاتنا السعودية.
وأرى أن من الضروري إعادة النظر في هذا الموضوع، لأن الفلسفة ليست مجرد علم بهدف العلم وموضوع هذا العلم، بل إنها تلقي بظلالها على جميع العلوم الأخرى، لأن كثيراً من هذه العلوم التي ندرسها في الجامعات قد ولدت من رحم الفلسفة.. وعندما نقرأ تاريخ وتطور أي علم من العلوم فنحن نبدأ من الفلسفة.. كما أن فهمنا للوضع القائم والحالة الراهنة يحتاج إلى أسس فلسفية مهمة تساعدنا أساتذةً وطلاباً على فهم الظواهر الحديثة في علومنا وحقول اختصاصاتنا.
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية
أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الملك سعود
alkarni@ksu.edu.sa