Al Jazirah NewsPaper Friday  04/04/2008 G Issue 12972
الجمعة 27 ربيع الأول 1429   العدد  12972
ثقافة التعايش
صلاح عمر شنكل

أن يتعايش الفرد مع بيئة أو مكان معيَّن، لا يعني بالضرورة أن كل ما يلاقيه في ذاك المكان أو تلك البيئة هو ما يتمناه بالتحديد، ولكن أن تكون لدى المرء المقدرة على التعايش مع المكان والبيئة والمجتمع، صغيراً كان أو كبيراً، فهذا يعني أنّ هذا الشخص سوي، ولديه القدرة على التكيُّف والموازنة بين ما هو مطلوب وما هو متاح، وأنّه يفكر نعقله وليس بعاطفته، وأنّه يستجيب للضرورات أكثر من الانفعالات. ولولا مقدرة البعض على التعايش مع الواقع الذي اقتضت الضرورة وجودهم فيه، لما تجانس الناس على مقاعد الدراسة، أو مواقع العمل، أو حتى مواقع السكن. ولكن سنّة الحياة اقتضت أن يبحث الناس عن الحد الأدنى للتوافق بدلاً عن البحث عن أبسط فروقات الاختلاف، إن لم يكن يتوفر الحد المطلوب للتوافق، الذي يكون في الغالب موجوداً. وليس من الضرورة أن يكون التعايش هو التفاهم التام، وليس ضرورياً أيضاً أن يكون نقيضاً له، إنّما هو قاسم مشترك يمارس من خلاله كلُّ فرد أو جماعة (طقوس) الحياة دون أن يكون ذلك على حساب الآخر. ما أحوجنا إلى نشر ثقافة التعايش، وغرسها في النشء منذ سن مبكرة، فهي تسهم بشكل فعّال في حسن التنشئة، وصناعة الشخصية، وفي تفوُّق الشباب، والفتيات في دراستهم، واستقرارهم في وظائفهم، ونجاحهم في أعمالهم، وذلك من خلال ثقافة الأبوين، فهذه من الأمور التي تُغرس في البيت أكثر من أي مكان آخر، وذلك لقوة تأثير (البيت) أي الوالدين، حيث قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يُولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصرِّانه أو يمجِّسانه) -أو كما جاء في الحديث الشريف. وهذا دليل على قوة تأثير الأُسرة، وليس المدرسة أو الشارع. نحن معنيّون إذن بنشر ثقافة التعايش والتواكب والتأقلم وغرسها في الأجيال منذ الصغر وفي البيت أولاً، لأنّ ذلك سيجنبهم الكثير من المزالق، والفشل في حياتهم المستقبلية. ولا يعني التعايش التخلِّي عن مبدأ أو خلق أو فضيلة، بل قبول الآخر، أو محاولة إيجاد أرضية تسع الجميع. وأن يتنازل المرء عن بعض الطموحات من أجل التعايش خير من أن يصر على كل المطالب ويفقد التعايش. ومن يحرص على كل شيء قد يفقد كل شيء. وما ينطوي على الأفراد والأزواج في هذا الشأن ينطوي أيضاً على الساسة وشركاء الحكم، أو الفرقاء أو المتفاوضين حول الأمور الخلافية. فالتعايش يمكن ألا يكون على حساب الكرامة أو المبادئ والقيم. هذا المفهوم يسهم في استقامة الفرد على صعيد الحياة الخاصة، ويسهم أيضاً في توازنه النفسي من خلال التعامل مع الغير، في كل المواقع التي تجمعه بالآخرين، وتكرس قيم التعايش حتى على المستوى الأسري، خصوصاً الشباب والفتيات الذين يقبلون على الزواج في سن مبكرة، فهم يحتاجون إلى الكثير من التحارب. فهؤلاء إن لم تكن لديهم ثقافة التعايش، سيتمسك كل طرف بما لديه من مفاهيم (عن كل شيء) ويلفظ قيم الآخر، ومن هنا تبدأ التوترات والخلافات، ومن ثم المواقف التي قد تقود إلى الانفصال. ولا شك أن هذا أحد أبرز أسباب ارتفاع نسبة الطلاق، خصوصاً الطلاق المبكر، الذي يحدث في الأشهر الأولى، ولأزواج صغار السن. الأجواء العامة على مستوى المحيط الضيق والعالم أجمع صارت (مكهربة) بالأفكار الغريبة، ومليئة بثقافة العنف والإرهاب، والأفكار الضالة. وفي حالة تثقيف النشء وتهيئتهم لقبول الآخر، فسيكون ذلك (حرزاً) لهم من (المس) الفكري والثقافي، وسيكونون بمنأى عن تدليس (الأباليس) أو الاصطدام معهم فكرياً، لأن (جينات) التعايش ستظل تفرز مادتها التي تمتص أي تعارض فكري أو ثقافي، من خلال التوازن النفسي والفكري الذي تربى عليه الفرد منذ صغره. قبل ذلك يجب أن نوجد هذه الثقافة بين جدران منازلنا، قبل أن نجرعها لأجيالنا القادمة، بحيث يدع كل منا مساحة للآخر، يتحرك فيها داخل نفسه، وعدم مصادرة الأذواق أو لميول أو حق التفكير، وحرية الاختيار والضحك، وغيرها من الحقوق، فحينما يتعايش أفراد الأسرة بوجود قواسم مشتركة قوية تسهم في تسيير دقة الحياة بنوع من الاستقرار والتفاهم والشعور بالراحة النفسية. فهذه سمات أساسية للسعادة التي يعجز كثير من الناس عن وصفها أو تخيلها، ووقتها ستسري هذه (الجينات) المعنوية إلى الأبناء وتنتقل - عبرهم- إلى محيطهم وتوفر أرضية لا بأس بها للتعايش، وتشكل حماية ضد كثير من تعقيدات الحياة التي صارت اليوم تمنع الحصول على الحد الأدنى من الاستقرار والسعادة.



shunku160@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد