لم تصل السوق السعودية بعد إلى مرحلة الاستقرار التي يمكن للمستثمرين فيها من الاطمئنان على استثماراتهم المالية. دون أدنى شك، فأسواق الأسهم عادة ما تتصف بالمخاطرة الشديدة، إلا أن هذه الخطورة تتضاعف بشكل لافت في السوق السعودية التي تنتشر فيها عمليات التوجيه والسيطرة؛ تحركها الشائعات، وتتقاذفها الأهواء والأمنيات. ويتسابق فيها أصحاب السيولة الجارفة....
....لاقتطاع الجزء الأكبر من أرباح صغار المستثمرين ورساميلهم. تنصب فيها شباك المسيطرين لاصطياد الكم الأكبر من صغار المستثمرين، والمغرر بهم، بقصد تحقيق القدر الأكبر من الأرباح الرأسمالية. من النادر أن نجد اهتماماً وتركيزاً على العوائد السنوية (التوزيعات النقدية)، فالسوق أصبحت سوق مضاربية من الدرجة الأولى، تتحرك وفق توجهات المضاربين لا المستثمرين.
في بعض الأحيان، يُخيل للمتابعين أن سوق الأسهم السعودية ما هي إلا جزء من عمليات المقامرة المحرمة شرعاً. وتظهر صالات التداول وكأنها صالات القمار، أما شاشات التداول فهي لا تختلف كثيراً عن أجهزة القمار الإلكترونية التي يعتمد فيها المقامرون على الحظ، وتتساوى فيها نسب الربح والخسارة. فإما مضاعفة الأموال، أو فقدانها جميعاً.
كنت شاهداً على ثلاثة انهيارات حادة تعرضت لها سوق الأسهم السعودية، وكان أخطرها على الإطلاق انهيار فبراير 2006 يوم هوى مؤشر الأسعار من مستويات 21000 نقطة تقريباً إلى 6767. في الحالات الثلاث كان لبيوع النجش علاقة مباشرة بالانهيار. أطلق المختصون مصطلح (فقاعات الأسهم) على تضخم الأسعار، في الوقت الذي عرفه الشارع الحنيف ب(بيوع النجش). قال الشافعي، رحمه الله، (النجشُ: أن يحضر الرجل السلعة وهي تباع فيدفع بثمن وهو لا يريد شراءها، فيقتدي به الناس فيعطون بها أكثر مما كانوا يدفعون، ويقع ذلك غالباً بتواطؤ مع البائع فيشتركان في الإثم). ومع دخول التقنية سوق الأسهم أصبح البائع نفسه يتولى عملية المناجشة من خلال المحافظ الإلكترونية التي يديرها، أو ربما بمساعدة الآخرين (المجموعات). كان لبيوع الغرر علاقة بإنهيارات السوق، الأخيرة منها على وجه الخصوص. عقود الاكتتاب في أسهم بعض الشركات التي فرضت على صغار المكتتبين علاوات إصدار خيالية تحت ذريعة المشاركة في أرباح الشركات الوطنية كانت مبنية على الغرر خاصة بعد أن تخلص منها ملاكها في غفلة من المستثمرين. تخلص ملاك تلك الشركات من أسهمهم يعني اعترافاً بعدم أحقية أسهمهم أسعار الطرح، ولا الأسعار التي وصلت لها في سوق التداول. شركات التأمين الصغيرة جاءت لتكمل مسيرة المقامرة البشعة التي عصفت بسوق الأسهم تحت أعين الجهات الرقابية. كانت سوق الأسهم السعودية الوسيلة التي تم من خلالها تناقل الأموال بين صغار المستثمرين وكبارهم. تضخمت خزائن القلة، ونضبت جيوب الأكثرية، وكان ذلك باسم (تجارة الأسهم). اختلطت التجارة بالاحتيال، فنُزعت البركة، وكانت النتيجة قاسية على الخاسرين والرابحين من المدلسين ممن ابتلاهم الله بما كسبت أيديهم.
نُزعت البركة من السوق بسبب ظلم بعض كبار المضاربين أنفسهم، وأخوانهم المتداولين. انقلب الاستثمار إلى مضاربة والمضاربة إلى مقامرة، واجتهد بعض الأغنياء في تعظيم ثرواتهم على حساب الضعفاء. فضيلة الشيخ عبدالمحسن العبيكان تحدث في أحد برامج الفتوى التلفزيونية - قبل انهيار فبراير- عن ظاهرة المقامرة في سوق الأسهم ، وميز بين الاستثمار في أصول الشركات المربحة التي توزع على المساهمين ريعاً من أنشطتها الاستثمارية المباحة كل عام، والمضاربة على أسهم شركات مفلسة لا تعكس قيم أسهمها السوقية القيمة الحقيقية للشركة حال تصفيتها.
البركة أساس كل شيء، وقليل بارك الله فيه خير من كثير نُزعت منه البركة. الصدق، والآمانة، وتقوى الله مدعاة للبركة، وسعة الرزق في الوقت الذي يكون فيه الظلم والخديعة وأكل أموال الناس بالباطل مدعاة للفقر وغضب الرب، والعياذ بالله. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، وجاء عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قوله: (إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً، إلا من اتقى الله وبر وصدق). بعض ما حدث، ويحدث في سوق الأسهم السعودية هو أقرب إلى الظلم والتعسف منه إلى البر والإنصاف ما جعلها سوقاً منزوعة البركة تُفقِر روادها الأغنياء وإن كَسِبوا، وتذل الفقراء وتصيب الطامعين بسهام من نار.
بعض المضاربين أراد أن يجعل من سوق الأسهم صندوقاً أسود لا يصل إلى معلوماته إلا القلة. تعقدت أمور السوق، واضطرب المتداولون، وكانت النتيجة قاسية على المواطنين واقتصاد الدولة.
الاستثمار في أسواق المال ليس بالأمر المعقد، وهو ما يؤكد عليه المستثمر العالمي ذائع الصيت (وارن بافيت)، بل إن جعل الأمر بسيطاً وفعل ما هو سهل وواضح بالنسبة للمستثمر أمر مدعاة للنجاح والكسب في أسواق المال. السيد بافيت ينصح المستثمر بمعرفة الإدارة وأخلاقها على أساس أنها تعادل لديه الشركة وأرباحها المستقبلية. بافيت ينصح بالاستثمار في الشركات التي تعمل إدارتها على وضع احتياجات المساهمين في مقدمة أولوياتها. يعتقد السيد بافيت أن (عملية شراء الأسهم هي شراء حصة من شركة فعلية وجزء منها لذا فإن أداء الشركات هو أساس اختيار الأسهم مع التوقعات المستقبلية). الغريب أن بعض بنود خطة السيد بافيت الاستثمارية التي احتوتها الكتب، وصفحات الجرائد تتطابق في مضامينها مع قواعد أساسية للاستثمار في الإسلام، جعلها غير المسلمين منهاجاً لهم، وتبرأ منها كثير من المسلمين.
لن تقوم لسوق الأسهم السعودية قائمة ما لم تُنق من تدليس المدلسين، وبيوع النجش والغرر، وتُقدم فيها مصلحة ضعفاء السوق (صغار المساهمين) على مصلحة الأقوياء، وأن تُكف يد العابثين، والطامعين في أموال الضعفاء الذين دخلوا السوق لتحسين أوضاعهم المالية فتقاذفتهم أمواج السوق فعادوا بخفي حنين وقد أحرقت أرجلهم وقلوبهم النار. أيها المتداولون اتقوا الله يفتح عليكم بركاته ويرزقكم من حيث لا تحتسبون. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرةSMS تبدأ برقم الكاتب 7741 ثم أرسلها إلى الكود 82244
f.albuainain@hotmail.com