أحسنت جريدة الجزيرة صُنعاً عندما استقطبت صُنَّاع القرار في الدول الغربية للكتابة فيها وشملت أسماء لامعة ممن لهم ثقل سياسي في توجيه السياسات الغربية لبلدانهم سواءً في الوقت الآني أو المستقبلي أمثال (يوشكافيشر) وزير خارجية ألمانيا السابق والرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر)، و(ميشيل روكار) رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق،
و(رتياشرد هاس) رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، و(جيمس ولفنسون) رئيس البنك الدولي الأسبق وغيرهم من أبرز الساسة والمفكرين والعلماء البارزين وهؤلاء هم صُنَّاع القرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بلدانهم بل وفي قاراتهم وهم منظِّرو أيدلوجياتهم بمختلف قطاعاتها الاجتماعية والسياسية والجنائية والحقوقية والإنسانية وإن لم يكونوا كذلك فهم مَنْ يعبر عن رأي النخبة المؤثرة في بلادهم، وهؤلاءِ الكُتَّابُ ومن خلال أطروحاتهم في جريدة الجزيرة التي أجزمُ بأنها ليست موجهةً لشعوب الدول العربية أو العالم الثالث خاصة وإنما هي موجهة للعالم أجمع، يتضح ما يفكر به أصحاب القرار الغربي وتوجساتهم عن مستقبل العالم والخطوات التي يجب وينبغي أن يتخذوها في سبيل إبقاء الحضارة الغربية سيدة الموقف العالمي والمهيمنة عليه، ولعل الصراحة والوضوح والشفافية التي يكتب بها هؤلاء تجعلنا نقف احتراماً لقدراتهم العقلية وأفكارهم النيِّرة التي يتمتعون بها بصرف النظر عن الاختلاف العقدي بيننا وبينهم إذ إنهم مؤمنون بعدالة ما يرغبون فرضه على العالم بصرف النظر عن صحته أو مخالفة غيرهم لهم، ففي المقال المنشورة بجريدة الجزيرة بالعدد رقم 12950 ليوم الخميس 5 من ربيع الأول لعام 1429ه الموافق 13 من مارس (آذار) 2008م كتب (يوشكافيشر) وزير خارجية ألمانيا الأسبق مقالاً بعنوان (الحداثة الانتقائية)، استعرض في بدايته ظهور المفهوم القانوني الطبيعي الخاص بحقوق الإنسان وأن ذلك منذ قرنين من الزمان وقد ساعد في ظهوره الثورتانِ الأمريكية والفرنسية، وأنه لم تحظَ فكرة حقوق الإنسان بالقبول إلا بعد قرنين من الحروب والكوارث السياسية والاجتماعية ثم التحرر من الاستعمار، وأن فكرة حقوق الإنسان كانت في بدايتها محصورة في السياسة الداخلية، وأن القوة ظلت تشكل القيمة الوحيدة الحقيقية على صعيد العلاقات الدولية وليس الحق، إذ القوة وفرض السيطرة على الناس والأرض هو المفهوم التقليدي لسيادة الدولة وحماية سلطتها بصرف النظر عما إذا كانت ذلك يتم بأسلوب متحضر أو وحشي أو ديمقراطي أو استبدادي وأن التغيير الأول المهم في فهم العالم لمفهوم السيادة كان بعد الحرب العالمية الثانية ومثلتها محاكمات نورميبيرغ لمجرمي الحرب الألمان، إذ إنه للمرة الأولى خضعت قيادات دولة بالكامل للمحاكمة عن جرائمها، كما أن تأسيس الأمم المتحدة وإعلانها العالمي لحقوق الإنسان كان بمثابة الإشارة إلى تعاظم أهمية القانون في إدارة العلاقات الدولية، ولم تعدْ السيادة تعتمد على القوة وحدها، بل تزايد اعتمادها على القانون واحترام حقوق المواطنين، وتجمدت هذه العملية إلى حد كبير أثناء الحرب الباردة التي دامت خمسة عقود، إلا أن أهمية حقوق الإنسان وحكم القانون عاد إلى البروز من جديد باعتباره الموضوع الرئيس للسياسة الغربية.. وتجسدت الخطوة الثانية الكبرى في نشوء مفهوم التدخل لأسباب إنسانية بعد حملة التطهير العرقي التي شهدتها رواندا وحروب البلقان التي دارت أثناء تسعينيات القرن العشرين؛ وأضاف (يوشكافيشر) أنه نتيجة لهذا اعترف القانون الدولي ب(حق الحماية) ضد استبداد الحكومات وجرائم الدولة ضد شعبها.. وأدت نفس التطورات في السياسة الدولية والقانون الدولي إلى إنشاء محكمة العدل الدولية، وأنه مع إنشاء هذه المحكمة نتيجة لخبرات طويلة قطع المفهوم الأساسي للحداثة شوطاً طويلاً؛ ثم خلص (يوشكافيشر) إلى تعريف الحداثة هنا بأنها تعني (أن سلطة الدولة وحكامها لا بد أن تكون خاضعة لحكم قانون أعلى وبالتالي وضع حقوق الأفراد فوق سيادة الدولة). وأضاف أن هذا التطور لم يكن مصادفة وإنما هو نتيجة لما أدركته أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من أن حكم القانون والفصل بين السلطات والديمقراطية من العوامل الحاسمة في تحديد السياسة الخارجية وتُشكل أهمية عظمى للأمن الدولي، إذ أثبتت الأنظمة الديمقراطية أنها أكثر مسألةً من الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية المتمثلة في الفاشية والشيوعية التي ظهرت أثناء القرن العشرين، واعترف (يوشكافيشر) في مقاله بأن كل ما حققته الحداثة الغربية أصبح مهدداً بسبب نهضة الصين وعودة روسيا إلى البروز على الساحة الدولية مما يشير إلى عدم وجود ارتباط لازم بين التنمية الاقتصادية من ناحية وبين الحداثة السياسية والثقافية من ناحية أخرى وأن النجاح الاقتصادي المبهر الذي أحرزته الصين بصورة خاصة يشير إلى وجود بدائل شمولية عملية للفكرة الغربية التي تربط بين الحرية والديمقراطية وحكم القانون واقتصاد السوق، وأن نجاح الصين يشير إلى أن الحداثة الانتقائية - أو الحداثة على طريقة الاختيار من القائمة - أمر ممكن وهذا يعني (أن يُسْمح للدول باختيار تطبيق عناصر الحداثة - التكنولوجيا والاقتصاد الحديث، والبنية الأساسية، والمؤسسات السياسية، والقيم السياسية التي تراها مناسبة لظروفها).
ثم تراجع السيد (يوشكافيشر) عن اعترافه السابق بعد أن توصل إلى حقيقة أن الحداثة الغربية لم تصمد أمام الحداثة الانتقائية المتمثلة في عودة روسيا ونجاح الصين في البروز كقوى عظمى منافسة للحداثة الغربية إذ قال: (إن الحداثة بالاختيار ليست أكثر من مجرد وهم ويبدو أن أنصار هذه الفكرة قد نسوا التجارب التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين حيث جربت كل من ألمانيا وروسيا تطبيق الحداثة بأساليب استبدادية وكانت النتائج مأساوية) ثم خَلُصَ إلى أن الحداثة غير قابلة للتجزئة في الأمد المتوسط، فإما أن تحظى بكل عناصرها أو لا شيء منها على الإطلاق، ثم أبان أن التغييرات التكنولوجية والاجتماعية العميقة التي أطلقتها قوى الحداثة تُخَلِّفُ نوعاً من التوتر غير القابل للانحلال في النهاية في ظل غياب الاستجابات المعيارية والمؤسسية اللائقة واستشهد على أن عدم الالتزام بالحداثة على النمط الغربي هي الحداثة اللاانتقائية سوف يُظْهر أعراض مرض الحداثة الانتقائية كما يحصل حالياً في الصين وروسيا من الفساد المتفشي في كل من الدولتين، إذ الصين على سبيل المثال كما يقول السيد (يوشكافيشر) تواجه مصاعب متزايدة في التصدير بسبب عجزها عن السيطرة على سلامة منتجاتها، وهذا العجز يرجع إلى الفساد إلى حد كبير، وبدون الالتزام بصحافة حرة وجهاز قضائي مستقبل فلا بد أن تتفاقم هذه الصعوبات، ورأى أن الحل للحداثة الانتقائية يكمن في السماح بحكم القانون، والفصل بين السلطات وأنه إذا لم يحدث ذلك فسوف تظل الدولة الروسية معتمدة على ارتفاع أسعار النفط والغاز حتى تنزلق إلى صراع وحشي على السلطة، والنفوذ والمال فضلاً عن ذلك فلن تتمكن احتياطيات روسيا من النفط والغاز، ولا سياساتها الإمبراطورية من إيقاف انحدار روسيا، ورأى (يوشكافيشر) أنه في حالة غياب المؤسسات الديمقراطية في روسيا والعاملة على نمط الحداثة الغربية فسوف يكون مصير محاولة روسيا التالية في انتقاء عناصر الحداثة الفشل في النهاية تماماً كما انتهى الحال بالاتحاد السوفيتي؛ وخَلُصَ إلى أنه في عصر العولمة الذي يعيشه القرن الحادي العشرون حيث قد تنتشر الأزمات من جزء ما من العالم إلى بقية أجزائه كانتشار النار في الهشيم تصبح الحداثة الانتقائية القائمة على قمع الصراعات والتوترات التي تولدها الحداثة أشد خطراً، وأنه وعلى الرغم من أن أعظم المخاطر التي هددت السلام العالمي كانت سياسات القوة والمنافسة الاقتصادية منبعاً لها، إلا أن المخاطر والتهديدات أصبحت اليوم تنشأ على النحو متزايد من العواقب الإقليمية والعالمية المترتبة على التفسخ السياسي والاجتماعي للدول المستقرة وانحدار أنظمتها المعيارية والمؤسسية، والأيدلوجيات الاستبدادية الجديدة ولهذا السبب أصبح التضارب بين (الواقعيين) و(المثاليين) في السياسة الخارجية وبين أنصار القوة (الصارمة) و(الناعمة) شيئاً من الماضي، وأكد (فيشر) أن العديد من الدول ما زالت تتبنى سياسات تقليدية قائمة على المصلحة، إلا أن مثل هذه السياسات سوف تصبح بالتدريج أقل قدرة على ضمان السلام والاستقرار في المستقبل، وختم مقاله بأن حقوق الإنسان ستصبح في القرن الحالي الحادي والعشرين مغزولة مع الأمن في نسيج واحد لا يمكن حلُّه، وهذا في رأيه هي العولمة والمتمثلة في (الاعتماد المتبادل بين البشر الذين بلغ تعدادهم 6.5 مليار نسمة يتقاسمون اقتصاداً عالمياً واحداً ونظاماً واحداً في إدارة الدولة)، بعد هذه الرؤية الغربية الواضحة يتجلى في مقال رئيس وزراء ألمانيا الأسبق عدة حقائق من أهمها:
أولاً : أن الدول الأوروبية وأمريكا تتبنى - أيدلوجية واحدة - هي الحداثة الغربية، وتخطط لفرض هذه الأيدلوجية على العالم أجمع من خلال عدة طرق منها:
(أ) فرضها على الدول السائرة في ركبها أو التي تطلب الانضمام إلى فلكها كدول الاتحاد السوفيتي المنحل في نهاية القرن الماضي كشرط للانضمام إليها.
(ب) تغيير مفهوم حقوق الإنسان من كونه يطبق على نطاق محلي ويُعرَّف بأنه (كل حق صالح مشروع يحميه الشرع أو القانون وبإضافته إلى الإنسان فإنه يتمتع بهذا الحق بسبب إنسانيته) إلى نطاق دولي تقوم الدول الغربية بالإشراف على تطبيقه حسب المفهوم الغربي والذي ينص على: (أن سلطة الدولة وحكامها لا بد أن تكون خاضعة لحكم قانون أعلى، وبالتالي وضع حقوق الأفراد فوق سيادة الدولة) وتستخدم الدول الغربية عدة طرق لإنفاذ هذا المصطلح الجديد لحقوق الإنسان وتطبيقه وذلك من خلال عدة قنوات أممية منها:
1 - هيئة الأمم المتحدة ولجانها ومقرروها بجميع أفرع وأنواع قضايا حقوق الإنسان.
2 - محكمة العدل الدولية.
3 - مجلس الأمن الدولي.
4 - منظمة التجارة العالمية.
ونظراً لما تمتع به الدول الغربية من نفوذ واستحواذ على هيئات الأمم المتحدة وعلى محكمة العدل الدولية وعلى مجلس الأمن وعلى منظمة التجارة العالمية، فإن عملية تمرير قرارات الإدانة للدول المخالفة لمفهوم حقوق الإنسان حسب المفهوم الغربي الجديد عملية سهلة تبدأ من إرسال مقررين معنيين لهم صفة الدولية للدول المستهدفة لإخضاعها لمفهوم الحداثة الغربية إذ يقوم هذا المقرر بالاتصال بمسؤولي هذه الدول، وبالأفراد المستهدفين من عملية التغيير إلى النمط الغربي كموضوع العنصرية، أو حقوق الطفل، أو حقوق المرأة، أو حقوق الأقليات أو غيرها ومن ثم أخذ التصورات وأوضاعهم الحالية وتحويل بحثها من نطاق محلي إلى نطاق أممي دولي يتم من خلاله الضغط على الدولة المستهدفة المطلوبة منها تطبيق الحداثة الغربية أو تحمل تبعات استصدار قرارات دولية ضدها مما يترتب عليه مستقبلاً إخضاعها لعقوبات أو مقاطعتها اقتصادياً حتى الخنوع والسير في ركب الحداثة الغربية.
وهنا لا بد من أن نتساءل عن ماهية خضوع الدولة لحكم القانون الأعلى الوارد في تعريف الحداثة الغربية لحقوق الإنسان، وهل لا بد على كل أمة من الأمم أن تطرح شرائعها الدينية وقوانينها التي تركبت عليها بنيتها الاجتماعية منذ آلاف السنين كالحضارة الصينية أو الروسية أو الحضارة الإسلامية، جانباً وتقنع خاضعة بالحداثة الغريبة كمنهج دين ,حياة.
إن حقيقة القانون الأعلى الذي يجب أن تخضع سلطة الدولة وحكامها له، الذي وضع حقوق الأفراد فوق سيادة الدولة هو عبارة عن إعلانات واتفاقيات دولية تبنته هيئة الأمم المتحدة ولجانها ومقرروها وتم التصويت عليها وصادق عليها القليل من الدول وتحفظت عليها معظم دول العالم ولم توقع عليها دول أخرى لعدم مواءمته لتشريعاتها وقوانينها كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948م والاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية عام 1966م والمنفذة اعتباراً من عام 1976م والاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام 1966م والمنفذة اعتباراً من 1976م وغيرها من الاتفاقيات اللاحقة.
ثانياً : تَغير مفهوم العلاقة بين الدول الغربية والدول الأخرى في نظرة (يوشكافيشر) من السياسة التقليدية القائمة على المصلحة وأنها هي الضمانة للسلام والاستقرار في المستقبل إلى مفهوم مدى تطبيق الحداثة الغربية، وعلى هذا التغير في نمط علاقات الدول فيما بينها، فإن الدول التي تعتمد على صداقة الدول الكبرى بسبب امتلاكها لمنتوجات اقتصادية مهمة أو مواقع إستراتيجية هامة سوف تفقد هذه العلاقة وهذه الخصوصية وسيكون المحك تطبيقها للأيدلوجيا الغربية المتمثلة بالحداثة اللاانتقائية كاملة أو فقد خصوصيتها وتهديد استقرارها.
ثالثاً: إنه نتيجة لتطبيق الحداثة الغربية، فإن مفهوم السيادة لكل دولة على أقاليمها وشعبها قد تغير ونشأ ما يُسمَّى بمفهوم التدخل لأسباب إنسانية، وهو ما يُطلق عليه (بحث الحماية) ضد استبداد الحكومات وجرائم الدول ضد شعبها، وهذا المفهوم نراه يُطبق حالياً على الدول التي لا تنتهج الأيدلوجية الغربية كالسودان مثلاً وتدخل الدول الغربية عسكرياً في دارفور، والتدخل في العراق لفرض الديمقراطية الغربية وإنقاذ شعبها من جرائم حكومتها السابقة، وكذا في إقليم التبت والإدانة الدولية للصين، وهكذا في الدول التي لا تسير في ركب الحداثة الغربية.
رابعاً: التصور النهائي للعالم في القرن الحادي والعشرين حسب نظر السيد (يوشكافيشر) هو دولة واحدة تعداد سكانها 6.5 مليار نسمة يتقاسمون اقتصاداً عالمياً واحداً ونظاماً واحداً مبنياً على الحداثة الغربية اللاانتقائية تتم إدارة هذه الدولة على أساس أن أي إقليم من أقاليم هذه الدولة لا يلتزم بهذه العقيدة الجديدة، فإنه يجب التدخل والأخذ على يديه حتى يسير في ركب الحياة الصحيح من خلال فرض العقوبات أو التدخل العسكري لفرض هذا الواقع الجديد وهذا هو المفهوم الأخير لعصر العولمة في نظر الحداثة الغربية.
باحث متخصص في مجال
حقوق الإنسان والعدالة الجنائية
Dr-a-shagha@hotmail.com