|
في المدن التي لا تنام يحلم المرء بالهدوء ويتمنى السكون ليلتقط أنفاسه ويخلو بنفسه ولو لساعات دون أن يعكر ذلك الصفو صرير عجلات سيارة نزق يظن أنه يكسب الأهمية بقدر قوة ازعاجه، وإن خلا ليل المدن من الضجيج فقدت بريقها وكينونتها وربما أدمن بعض سكانها ذلك لدرجة فقدانهم للازعاج؛ حيث أصبح عادة لا يحسون بها، ولكن أمنية الحلم بالهدوء قديمة طوتها يد الحضارة التي تأخذ ثمن ما تمنحنا إياه باليد الأخرى ففي زمن المادة كل شيء له ثمن. |
وهناك فئة من الناس ينظرون إلى الليل بصورة مختلفة عن سائر الخلق حيث الخلو إلى النفس فالليل هنا له طعم مختلف بحسب حالاتهم التي يغلب عليها الحزن والألم تفتك بهم الوحدة ويخلو بهم الألم وتنفرد بهم الهموم، إنهم الغارقون بظلام الليل والمقيدون بسلاسل السهر. إنهم الشعراء أم التعساء فها هو امرؤ القيس يقول: |
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل |
بصبح وما الإصباح منك بأمثل |
وقد تقتل الوحشة صاحبها إذا فارق من يقاسمه الليل والنجوم، كما في حال المتنبي بعد رحيل أحبته حيث يجثم الظلام بلا رحمة: |
ليالي بعد الظاعنين شكول |
طوال وليل العاشقين طويل |
بين لي البدر الذي لا أريده |
ويخفين بدرا ما إليه سبيل |
أما النابغة فإن الليل يمثل عدواً يتبعه ويترصد خطواته، فهو يخاف حلوله لعلمه بما ينتظره إذا حل الظلام إذ ليس أمض من جحيم من تتجاهل ظاهراً أنه بعيد الوصول حيث تقضي نهارك مترقباً منتظراً فالنهار هنا قارعة طريق تصل بين ألم ليلتين. |
وإنك كالليل الذي هو مدركي |
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع |
وأبو فراس الحمداني في قصيدته المشهورة يعترف بانتصار فاتنته عليه حيث تتحول جبال الصبر إلى سائل يطلق عليه (الدموع)، وهنا يصبح الليل ملجأ وستراً يمارس فيه الشاعر حالة الصدق مع النفس حيث لا كرامة لعاشق. |
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى |
وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر |
ومن يتمعن في حال الكثير من الشعراء قلما يجد منهم من يعتبر الليل نزهة فمنهم يرقب النجم ويناجيه ويشكو إليه معاناته برغم أنه لم يذكر أن نجماً آخر من سمائه باكياً لحال شاعر. |
وها هو بشار بن برد يحس أن النهار ربما أصيب بما أصيب به هو من فقدان القدرة على التركيز وهنا أجد صورة رائعة حيث يرى أن الطول ربما كان اتصال ليلين لا نهار بينهما شعر بشار غني بالصور المبهرة: |
خليلي ما بال الدجى لا تزحزح |
وما لعمود الصبح لايتوضح |
أضل النهار المستنير طريقه |
أم الدهر ليل كله ليس يبرح |
وطال علي الليل حتى كأنه |
بليلي، موصول فما يتزحزح |
وهنا لا يفوتني أن المح إلى بيته المشهور ووصفه الحي للمعركة برغم فقدانه لبصره حيث يقول: |
كأن مثار النقع فوق رؤسنا |
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه |
ولأن شعراء اليوم أو شعر اليوم امتداد طبيعي لشعراء وشعر الأمس، ولأن الليل لم يغير من سلوكه أو يعتذر، ولكون الليل بظلامه ورصانته يمثل خزانة لأسرار الناس في نظر الشاعر فها هو خالد الفيصل يطرح عليه سؤالاً حيره كثيراً حيث ارتبطت معاناته كغيره من الشعراء بالليل فهل أجابه الليل. |
يا ليل خبرني عن أمر المعاناة |
هي من صميم الذات ولاَّ أجنبية |
وهنا نصل إلى حالة خاصة من حالات التفاؤل؛ حيث يتحول الليل بنظر بدر بن عبدالمحسن إلى أمنية أن يكون الليل جادة وصل وقد رأيناه، وأقصد البدر، في حالات شعرية متكررة يرسم معاناته وألمه مع الليل وهنا صورة نادرة من مئات الصور التي تحفل بها قصائده. |
كن السهر درب عليه بتجيني |
وما ودي اقطع درب لا ماك برقاد |
وهناك من ينتظر أن يمنحه الليل عصا سحرية يهش بها على الظروف فتنحدر كحال الحميدي الحربي حين قال: |
ليل الأحلام.. مناني بصفو الزمان |
وقبل يوفي محته الشمس بأنوارها |
ومن الشعراء من يظن أن الليل يتربص به، وبمجرد أن تتاح له الفرصة أو يجد من يعذب الشاعر إلا ويبادر إلى الوقوف بجانبه كما يرى ذلك عبدالله العليوي: |
معك الليالي يوم صديت مالت |
هم لجا في خاطري ماله حدود |
وأخيراً هل رق الليل لحال شاعر ؟ هل آزره ؟ هل هون عليه؟ هل خفف من ألمه؟! |
إنه لم يفعل ولن يفعل، وما أجمل بالنسبة لي أنه لم يفعل ليزداد الشعراء ابداعاً وألقا وروعة وعذوبة ويزداد المتلقي متعة مع المدهش والنادر من الشعر الذي يحدثه الليل في قلوب الشعراء. |
|
صادق واحب الصدق لو كنت ما انول |
من صدقي.. الا جرح سود الليالي |
يكفيني اني عن ثرى الزيف معزول |
لو عشت في نجم الحقيقة لحالي |
|