يتحدّث النّاس هذه الأيّام، عن (ظاهرة) جديدة غزت بعض المدن، وبخاصّة مدينة الرّياض؛ وهي ما يُطلق عليه خطباء المقاهي؛ حيث يُفاجأ الجالسون في المقاهي؛ بعددٍ من الشّباب يقتحمون المقهى، ويغلقون التّلفزيونات،
ويرفعون أصواتهم على أصحاب المقهى بالتوقّف فوراً عن العمل، ويطلبون من روّاد المقهى أيضاً عدم التّحدّث مع بعضهم، والاستماع إلى الموعظة التي سوف يلقيها الشّيخ فلان، وهو غالباً من الشّباب المتحمّس، الذي سريعاً ما ينطلق رافعاً صوته مع زملائه على باب المقهى، ويبدأ الحديث عن التّدخين وأضراره، والبلوتوث، والصّور، ورسائل الجوّال ومشاكلها، والسّهر وعواقبه .. وهكذا ينتقل من موضوع إلى موضوع، ومن قضيّة إلى قضيّة، كما ينتقل الحديث الخطابي من شخص إلى آخر على باب المقهى، مع تهديد بين حين وآخر للحضور بأهمّية الاستماع، وضرورة الإنصات التّام للموعظة التي تُلقى سريعاً بطريقة ارتجاليّة، تتضمّن التّذكير بالموت وسكراته، وعذاب النّار وويلاته?. إنّ خطباء المقاهي يأتون ثلاثة أو أربعة أو خمسة يركضون وهم يهتفون بعبارات تحذيريّة داخل المقهى، وينطلقون من جهة إلى جهة، ومن باب إلى باب بطريقة غريبة، تستهدف تخويف الموجودين بالمكان، وبثّ روح الذُّعر فيهم، وهي طريقة تنعكس سلباً على تقبُّل المجتمع لهم، والثّقة فيهم واحترامهم، كما أنّها تعكس المستوى الحضاري لأفرادها، والذي يتنافى مع الوقار وأدبيّات التّعامل.
* ما تقدّم أعلاه أيّها السيِّدات والسادة .. هو جزءٌ من مقال كتبه زميلنا الدكتور (جريدي المنصوري) في ملحق الأربعاء بجريدة المدينة يوم الأربعاء 12 مارس الحالي. والكاتب كما رأينا، ينقل لنا صورة شبه (فوتغرافية)، من واقع معاش ملموس، ليس في الرياض وحدها، ولكنه موجود بنسب متفاوتة في كثير من المدن والقرى، والمقاهي التي تتعرّض لغزوات من هذا القبيل، ليست وحدها، لأنّ قصور الأفراح هي الأخرى مغازات لمثل هذا السلوك غير المشروع، من قِبَل أناس لا صفة لهم إلاّ ما قد يعطونه هم لأنفسهم، فهم حسب علمي، لا ينتمون لأيّة جهة رسمية، وهذا أمر يثير التساؤل حقيقة: هل هناك قوة خفيّة تحركهم ..؟ ومن يقدّم لهم الدعم المادِّي واللوجستي، ومن يوجههم بهذا التنظيم (الشبكي) الذي نراه بينهم..؟
* لطالما اشتكى كثير من الناس، من دخول شباب أغراب وسط حشود الناس في حفلات الأعراس، دون إذن أصحاب الشأن، ليتصدّروا محافل الأفراح، فيعمدوا إلى إسكات الناس، ويمسكوا بمكبّرات الصوت، ثم يتداولون الحديث في أمور وعظيّة ليس هذا زمانها ولا مكانها، وربما تطرّقوا في خطبهم هذه، إلى مسائل الطلاق والفراق، في ليلة زواج وقران، وتناولوا الموت وأحكام غسل الأموات، وكذلك عذاب القبر وهول يوم القيامة، في موقف مخصّص لإظهار أفراح الناس وسرورهم وابتهاجهم، ووقع كثير من هذا، وبعض الناس وهو قليل، يملك الشجاعة الكافية، فيمنع هؤلاء المنفلتين من اقتحام حوزته الخاصة، ويحول بينهم وبين استلاب الفرحة بالقوة، أو تعطيل مصلحة في مقهى أو مطعم، ولكن .. هل يفعل هذا كل الناس، وخاصة أولئك المسكونين بالخوف من مثل هذه المواقف المتلبسة بالدين والدعوة..؟
* إنّ كثيراً من علمائنا وفقهائنا الأجلاء، لا يقر هذا الذي يجري اليوم بيننا بكل تأكيد، والشيخ (عبد المحسن العبيكان) - حفظه الله - ، قال قبل عدّة أيام، بأنّ اقتحام قصور الأفراح بقصد الدعوة، بدعة ليست من الدين في شيء، لأنّ مناسبات الأعراس مخصصة لإظهار الفرح، ولم تُجعل لسماع المواعظ. فحريٌّ بنا إذن، أن نتنبّه إلى هذا الأمر، وإلى ما ينتج عنه من استفزاز ظاهر، وضرر شاهر، وسلبيات لا نستطيع تحديد أبعادها.
* إنّ ما تتعرّض له المقاهي وقصور الأفراح، أصبح حديث الناس في مجالسهم، خاصة بين أولئك الذين ينظرون إلى هذه التصرفات غير المسؤولة، من زاوية التعدِّي على خصوصيات المواطنين والمقيمين على حد سواء، في الأماكن العامة التي يرتادونها للانتجاع والتنزُّه والفرح، بعيداً عن شوارع المدن المزدحمة، وأحيائها المكتظّة، وأجواء الشقق المغلقة، وهم إذ يخرجون من هذا الاختناق والضيق، لا يلتقون في بارات للمحظورات والمنكرات، ولا يتخفون في سراديب مظلمة، مثل شواذ الناس وخوارجهم، ولا يسرّهم أن يخرجوا من اختناق إلى اختناق آخر مثله، وإنّما يبحثون عن فضاءات رحبة، ويجلسون في الهواء الطّلق أمام الأعين، في أمكنة مرخّصة بشكل رسمي من الدولة، وهم إذ يجتمعون في أمكنة كهذه، ليس فقط من أجل احتساء الشاي وتدخين الشيشة، ومتابعة برامجهم المفضّلة في القنوات الفضائية، وإنّما هي الأمكنة الوحيدة المتاحة أمام معظم الناس اليوم، الذين يدورون في عجلة الحياة اليومية، بما فيها من أخذ ورد، وبسط وشد، وجزر ومد، وما يجري بينهم من تقابس وتثاقف، هو خبز الناس المشترك في المقاهي والمطاعم والمتنزهات ومناسبات الأفراح، وإلاّ كيف يرى الناس بعضهم بعضاً، وأين يلتقي الصديق بصديقه، والموظف بزميله، إذا كان هناك من يتربّص بهؤلاء وهؤلاء، ويستخدم الخطاب الديني والوعظ، سبيلاً يكبت به حرّيات الناس، ويخنق أنفاسهم، ويقيِّد حركتهم، ويعطِّل مصالحهم، ويخطف البسمة من أفواههم، وينغص عليهم حتى متعة الجلوس في مقهى عام، أو يحاصرهم في مطعم، ويقفل دونهم شاشة التلفاز، ويُقرّع من لا يعجبه في جلسة أو لبسة، ويأمرهم بالسكوت والإنصات، ويمنع عنهم الشيشة، ويتهدّدهم بعذاب القبر، ويتوعّدهم بالجحيم والنار، وربما جاء من يسحب كراسي الجلوس من تحتهم، كما فعل موظفون في هيئة الأمر بالمعروف مع عائلات في مطعم في مجمع غرناطة بالرياض قبل ثلاثة أسابيع..؟!
* هناك مجموعات من الشباب، لا يشكِّلون ظاهرة فقط كما أشار الدكتور جريدي، وإنّما هم ينفِّذون أجندة صحوية مُجدّدة، لأنّها كانت موجودة من قبل في السبعينيات الميلادية، وتسيّدت الساحة بعد حادث الحرم الإجرامي، وها هي تعود بعد الحادي عشر من سبتمبر البغيض، بصورة فيها كثير من التعدِّي والتحدِّي، وما يجري اليوم حقيقة، هو ضخ دماء جديدة في هيكل الحركة الصحوية، التي ظلّت تسعى وما زالت، إلى طلبنة المجتمع السعودي بالقوة، وتكريس وصايتها على كل فرد فيه، فنحن نتذكّر جيداً، أنّ الحركة في منطلق عملها في تلك الفترة، اتخذت من الدعوة غطاءً للعمل بحرية أكثر، وبدأت بالمساجد الصغيرة ثم الكبيرة، فقد كانوا يتحركون على شكل موجات ومجموعات، على رأس كل مجموعة أمير، تدخل المجموعة المسجد، فتجعل منه مقامة ومنامة لعدّة أيام، وهي تتغذّى على الماء والتمر والخطب المنبرية، وكانوا يقفلون المسجد بعد أداء الفريضة، ليُسمعوا المصلين خطبهم بالقوة، وكان معظم خطبهم في تلك الفترة، يدور حول ما هو مختلف عليه فقهياً، من الأغاني والموسيقى والتلفزة والصور واللبس وعمل المرأة ونحوه، ثم يتطوّر الأمر، حتى يمس حكومات الدول وعلمائها وشرعيتها، وكانوا يسجِّلون في بيانات معهم، أسماء الأتباع المأخوذين بمثل هذه الطروحات الحادة، ومن يرغب الالتحاق بالرّكب من الشباب خاصة، ليصبح في صحبة أمير ومأمورين، فبوسعه ذلك، حتى وقعت واقعة الحرم الشنيعة، وليتها كانت كافية، لكي نعتبر ونتّعظ، ولكن هيهات .. هيهات.
assahm@maktoob.com