الناس في رهافة الحس يتمايزون، وفي التمثل بأدبياته يتباينون، وعلى قدر تعليمهم وتربيتهم وتهذيبهم وصقلهم يكون ذلك التمايز والتباين. وأكثر ما جذبنا إلى هذا الموضوع تصوير رائع لدواخل النفس، ومعنى لطيف بديع تناوله الشاعر في إحدى القصص الشعرية ذات الطابع الغرامي على لسان المرأة، وهي تحاول أن تدفع عنها شبهة الوصل، والعلاقات المذمومة. يقول: |
وقالت أهذا دأبك الدهر سادراً |
أما تستحي، أو ترعوي، أو تفكر؟ |
إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا |
لكي يعلموا أن الهوى حيث تنظر |
أما الهوى، فقد وهنت عندنا أسبابه، وانقطعت عنا وسائله وأساليبه، لكننا قد نجد في أسراره وخفاياه، ولطائف أصحابه ما نستطيع أن نستظهره بطريقة أو أخرى، فنوظف ما استحسنا من أدبياته في سلوك الناس، لتقويم أخلاقهم ومعاملاتهم. |
* بعض الناس تغلب عليهم الفضولية في أسلوب الكلام، وطريقة الخطاب. في مأكله حين يأكل، ومشربه حين يشرب، في نظراته حين ينظر، وملبسه حين يلبس في لمزه وغمزه في هزله وجده، في نهج أسئلته وحواراته. |
* للبشر أياً كان صنفهم، وأياً كانت أجناسهم وأعراقهم أذواق وعادات وسلوكيات جديرة بالالتفات إليها، وأنت تقيم معهم ألواناً من الصلات، وضروباً من العلاقات، وما قد تستظرفه وتستملحه يستهجنه غيرك ويزدريك به، وليس من الضرورة أن تكون مقتنعاً كل القناعة بما تفعل وتمارس، إذ ربما صادف هوى وقبولاً، أو نفوراً لدى الغير. تأمل سلوك الناس في غدوهم ورواحهم، في الطرقات، وفي المنتديات، وفي الأسواق، وفي مواقع العمل المختلفة، بل وفي أماكن العبادة وستجد سذاجة بعضهم، وهو يطلق بصره فيما لا يعنيه، وتمتد يده إلى ما لا يقع تحت حوزته وتصرفه، ويسير أمام الناس بطريقة لا تتفق إلا مع رعونته وطيشه، وحمقه وجهله. |
* كثير من السلوكيات عدت في قاموس الأوائل وأعرافهم من خوارم المروءة، لأنها تتنافى مع ذوق الإنسان السوي، ذي المشاعر الراقية، ومن أجل ذلك بنى بعض الفقهاء كثيراً من أحكامهم وفتاواهم عليها. وتقادم الأيام، وتغير الظروف لا تسقط بعض الأعراف، لأنها لم تُبنَ عبثاً، ولم تُسَق جزافاً، بل استخلصت مما يتأذى منه الناس ومما يأنفون منه ويمتعضون، والعربي فيما يبدو أدق وأصفى ذهناً من غيره، وأكثر نباهة وملاحظة، وأشد غيرة واستنكاراً، وإباء ونفوراً مما يمقته الناس. |
* أقل الناس وعياً هو من يتغافل، أو يتجاهل دقائق حياة الناس، ولا يقيم وزناً لهم. لا يأبه بما يخدش حياءهم، أو ينال من عفتهم وكرامتهم، أو يحط من سمتهم ووقارهم، أو يقتحم عليهم سترهم الذي ستر الله به عليهم. أو لا يفرق بين العامة من الناس وخاصتهم، وهو يتجاذب معهم في شؤون الحياة. |
* النفس الإنسانية لها وزنها واعتبارها، ولها ميزانها الحساس، ولا يستطيع أن يدرك ذلك فاقد الحس من الناس، أو عديم الشعور، ومن هنا التفت إلى ذلك الشاعر بقوله: |
أقبل على النفس واستكمل فضائلها |
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ |
ستظل النفس الإنسانية بخير ما لم يتخل عنها الضمير الحي ويخذلها، وحينها لن يكون للحس قيمة تذكر، ولن يكون له نبض في حياة الناس. |
|