يأتي في مقدمة العوامل التي أدت إلى تأخر التعليم في المملكة وفي عموم البلاد العربية، التشويه المتعمد للغايات والأهداف المبتغاة من التعليم، وهذا التشويه يتم على مستويين، المستوى الأول يتمثّل في رؤية العائلة والأهل والأقربين للغاية من التعليم، والمستوى الثاني يتمثّل في جهد القائمين على التعليم وإدارته، ومدى كفايتهم المهنية، بدءاً من الفصل المدرسي حتى رؤوس الهرم الإدارية التي تدير التعليم وتشرف عليه.

فالأسرة ما زالت ترى أن معيار النجاح عندها يتجسّد في كم الدرجات التي يتحصّل عليها الأبناء في دروسهم، فأضحى تقدير (100 %) هو الغاية والمبتغى من التعليم، دون إيلاء أي اهتمام أو متابعة لمدى مصداقية هذا التقدير، وهل هو يعكس المستوى الحقيقي للابن؟ أم لا، فغلب هاجس الكم المتمثّل في الاهتمام بتحصيل الدرجات العالية، على العناية والاهتمام بالكيف المتمثّل في بناء الشخصية السوية المتكاملة الناضجة. ويرجع هذا الانحراف والتشويه في رؤية الآباء للغاية من التعليم، إلى سيطرة هاجس إلحاق الأبناء في التعليم الجامعي، كي يحصلوا على شهادات تؤهلهم للوظائف الحكومية، العمومية منها والعسكرية والحربية، حيث تعد هذه الوظائف الأشرف والأليق والأنسب والأصلح لمستقبل الأبناء، وأزيحت من دائرة الاهتمام الأعمال التي تعد مصادر للكسب والثروة، فمنابع الخير تتجسّد في الصناعة والزراعة والتجارة، وغيرها من المهن والحرف الحرة الكريمة.

وتمخض عن هذا التشويه قوائم طويلة من الخريجين، وسوف تطول القائمة، ويطول الانتظار على أبواب التعيين في الوظائف الحكومية، ولن يجني منه الآباء والأبناء غير الحسرة والندامة ومتابعات وراء سراب لا ينقطع، من الوعود والآمال المشحونة بالألم والحسرة على مستقبل تتبدد أيامه دون فائدة أو عائدة على الخريج نفسه وعلى وطنه.

ولن تتبدل الحال، وتتغيّر مؤشرات مخرجات التعليم كي تفي باحتياجات التنمية، وتتوافق مع فرصها ذات الجدوى الأكيدة، والفائدة الكبيرة، للخريج نفسه ولوطنه، إلا بعد أن يدرك الآباء أهمية، بل وجوب تحرير مستقبل أبنائهم من الركون إلى الوظائف الحكومية، وتوجيه أنظارهم إلى مصادر الرزق الأوفر مجالاً، والأجدى ثمرة.

إن حالة اليأس التي تغمر المنتظرين فرص الوظائف الحكومية، تحتم عليهم الخروج من هذه الدوائر الضيقة، إلى آفاق الأعمال الحرة، لأن مجالاتها رحبة واسعة، وجل ما تتطلبه درجة عالية من الإقدام الواعي، والمثابرة الجسورة، وعندما يتحقق هذا، تتحطّم عقبة كأداء أعاقت الكفاءة النوعية لمخرجات التعليم.

أما القائمون على التعليم وإدارته، فيجب أن توجه جهودهم إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة عن الغرض من التعليم ومقاصده، وذلك بأن تراجع غايات التربية وأهدافها، وتوجه إلى تكوين ناشئة يعتمدون على أنفسهم بعد الله في تحديد مسارات شئون حياتهم وإدارتها، ناشئة يقدرون على التكيّف مع متغيّرات الزمان ومتطلباته، ناشئة يستطيعون أن يعيشوا ويختاروا الوسط والمجال الذي يحقق ذواتهم بجدهم وجهدهم، ووفق رؤيتهم لا رؤية آبائهم.