(لا زلت أذكر تلك النظرات الباردة الغيورة في كل مرة أعرض عليها فكرة مبدعة أو أسلوباً جديداً لأداء عمل ما، وكان الرد الوحيد الذي تنطق به تلك المديرة المدمرة للهمم (سنرى لاحقاً). وبعد عدة مرات من الكرّ والفرّ، اكتشفت الحقيقة الواضحة -والتي لم تعد تقبل النكران أو التماس الأعذار- بأن مديرتي العزيزة تغار من ذكائي وتحاربني بوأد إبداعاتي بكل طريقة ممكنة! كان الإبداع الوحيد الذي عرفناه منها هو التفنُّن في أساليب قتل الطموح وزعزعة الثقة بالنفس ودس الأفكار والمشروعات المتميزة في غياهب الأدراج...).
هذه الأسطر القليلة كانت جزءاً من يوميات موظفة وصلت إلى بريدي من إحداهن تصف معاناتها مع مديرتها في العمل والسبب أن تلك الرئيسة -ومثلها كثير ممن يظنون أنهم قادة- نست أو تناست الدرس الأول من دروس القيادة والذي مفاده (إذا كنت ذكياً فابحث عن الأذكياء ليعملوا معك)، فما بالهم إذا وُجدوا مع الأذكياء ناصبوهم العداء بدلاً من استثمار عقولهم لرفع إنتاج المنظمة وتحقيق أهدافها!؟! هؤلاء المديرون بهذه العقليات النرجسية يرفعون شعار (لا للإبداع) لا لشيء سوى أنهم يخشون على أنفسهم من أولئك القادمين الجدد ويعدون أن بروز أي من موظفيهم بفكرة غير مسبوقة يهدد وجودهم ويكشف المستور عنهم وسيظهرهم (أغبياء) لأن تلك الإبداعات لم تكن من ثمرات تفكيرهم! ولعل عدم فهمهم ومعرفتهم لأدوار القيادة هي السبب بذلك. فالقائد ليس الأذكى لأن قدراته العقلية أعلى ممن حوله؛ ولكنه كذلك لأنه استطاع توظيف الأذكياء واستقطابهم لمؤسسته وإضافة عقولهم إلى عقله والاستفادة من نتاجها وإبداعاتها لصالح الخطط التي سيعتمدها لتحقيق السياسات وترجمة الرؤى. وهذا الذكاء القيادي هو الذي يحتم على ذلك القائد احتضان الأفكار الجديدة وتشجيعها بل وتوليدها من خلال المناقشات المفتوحة ومشاركة الأتباع في اتخاذ القرار. كما أن من أبجديات الذكاء القيادي مكافأة المبدعين بنشر إبداعاتهم وتهيئة الأجواء الحافزة لهم على الإبداع. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، حين سأل بلال عندما سمع خشخشته في الجنة: (يا بلال: بم سبقتني إلى الجنة؟) فأجابه بلال رضي الله عنه بقوله: (ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين بهذا). وليعذرني المفسرون وأولوا العلم ولكن من وجهة نظر إدارية بحتة، أفلا يعدُّ هذا إبداعاً من بلال رضي الله عنه وأرضاه سبق به نبي الرحمة وهادي الأمة إلى الجنة؟! ولنتأمل الموقف بمنظور قيادي أعمق، فهل كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بحاجة لبلال ليشرح له السبب وهو الذي فُتحت كافة قنوات الاتصال الإلهي بينه وبين ربه!؟! ولكنه كان درساً عظيماً في مهارات القيادة لنتعلم منه جميعنا تواضع القائد وتلطّفه، واهتمامه بمعرفة أدق تفاصيل أسرار نجاح أتباعه وتجاربهم وعرضها على البقية تحفيزاً لهم وتكريماً وإشادة بأصحابها.
قبل النهاية: ما أجمل أن يرحل القائد ويترك خلفه سجلاً حافلاً بالمواقف الكريمة والذكريات الجميلة التي يحملها له أتباعه في القلوب، بدلاً من يوميات بائسة تقطر أسى وتئن منها الأوراق وصناديق البريد.
فتحية البرتاوي
Bartawi1@gmail.com