إعداد - محمد بن سليم اللحام *
أكد فضيلة الشيخ عبدالمجيد بن عبدالعزيز الدهيشي إمام الجامع القديم بالمجمعة أن الإنسان لا يلام إن هو سعى بكل طاقته في تحصيل ما ينفعه ودفع ما يضره في بدنه وماله وأهله وأولاده وقال: فمن سمع بمرض معدٍ تحصن منه وأخذ أهبته، ومن صال عليه معتدٍ يريد نفسه أو عرضه أو ماله حمي أنفه وثارت غيرته واستبسل في الذود عن حماه، ومن رأى خطراً أمامه تجنبه وحاد عنه.
وأضاف فضيلته في حديثه عن (شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) لو كان أحدنا في منزله وسمع صوت معدات تشرع في هدم منزله، ورأى شخصاً مغرضاً يقوم بذلك، أيدعه يصنع ما يشاء أم أنه سيمنعه قدر استطاعته؟
وتساءل كذلك لو كان هناك عمارة كبيرة مكونة من أدوار عدة، وأراد ساكن الدور الأرضي من هذه العمارة أن يوسع مكان نزوله فشرع في هدم وإزالة الأعمدة ونقض الجدران من حوله ليتسع منزله ولم يأبه بحق ساكني العمارة من فوقه، ولم يبالِ بحياتهم، ولم يكن عنده مانع من أن تسقط العمارة بكاملها ما دام أنه مستفيد بتوسعة منزله، هل سيدعه الساكنون يفعل ما بدا له أم أنهم سيحولون بينه وبين ما عزم عليه، ولو تركوه وما نوى لهلكوا جميعاً تحت أنقاض العمارة بدءاً بصاحب الدور الأرضي الذي ارتكب هذه الحماقة.
******
ركاب السفينة
وقال الشيخ الدهيشي كذلك هناك صورة أخرى ومثل جميل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته حين أشار إلى ركاب سفينة تمخر بهم عباب البحر وسط هدير الأمواج وصفق الماء، وركاب السفينة كثر، بعضهم في أعلى السفينة وبعضهم الآخر في أسفلها، والذين في أسفلها إذا احتاجوا إلى الماء مروا بمن فوقهم فأزعجوهم وأشغلوهم وأحرجوا معهم، فأراد أحد الذين في أسفل السفينة أن يريح نفسه من هذا العناء فعزم على إحداث خرق في أسفل السفينة حتى يصل إلى الماء كلما أراده دون إيذاء من فوقه، فشرع في هذا الخرق انطلاقاً من حريته الشخصية وأنه لا أحد يمنعه مما أراد، فما موقف الباقين من ركاب السفينة؟
وعلّق فضيلته بقوله: إن العاقل يعلم أنهم لو تركوه يعمل ما يشاء ولم يمنعوه من إحداث الخرق لغرقت السفينة بكاملها واستدل فضيلته بما أخرجه البخاري من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) وفي لفظ آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المدهن في حدود الله -والمدهن هو المحابي الذي يضيع الحقوق ولا يغير المنكر- والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولابد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم).
وشرح الشيخ الدهيشي بقوله: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يضرب لأمته هذا المثل حين يشبههم بركاب سفينة النجاة التي تبحر وسط أمواج الفتن والشبهات والشهوات، وكلما كانت السفينة سليمة، وركابها عقلاء، يمنع عاقلهم سفه سفيههم، كانت حرية بالسلامة والنجاة، ولكن الخوف إنما يأتي من قبل أناس قلت عقولهم وهانت عليهم سلامة مجتمعهم وغلبوا أهواءهم وحكموا شهواتهم فتنادوا إلى الوقوع في المحرمات والولوغ في المعاصي والسيئات، ودافعوا عن أمثالهم ممن رتع في الموبقات، أو تساهل في أداء الواجبات، فهؤلاء هم الذين يخرقون سفينة المجتمع بمعاول شهواتهم ما لم تردعهم البقية الباقية من المجتمع.
أمضى سلاح
وأكد الشيخ عبدالمجيد الدهيشي أن أمضى أداة يصان به المجتمع المسلم وتحفظ به كرامته، أداء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبه تصان الأعراض، ويحتاط للدين، وبه يأمن المسلم على عرضه، وهو الضمانة بإذن الله تعالى للمجتمع من أن يقع به ما وقع للأمم السابقة ولأمم ومجتمعات لاحقة ممن أشاع المنكر واستهان بالواجب الشرعي، فإن المجتمع المسلم إذا فشا فيه المنكر ولم ينكر ولم يتصدَ له الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر فإنه يفقد أماناً كان بيده، وتزول عنه ضمانة كان يحملها مهما كان موقعه وزمانه، ويؤكد هذا ما قاله النبي الكريم في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها-، فقالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث). وقال: إذا كثر الخبث وعم، فلا منكر ينكر، ولا معروف يؤمر به، وترك الحبل على غاربه، وانطلق كل مفتون ينفس عن مكبوت شهواته بلا حياء ولا خوف، فهنالك تأتي السنة الربانية التي تستوجب العقوبة والهلاك للمجتمع الذي يفشو فيه المنكر.
السباق في اللعنة
وبين فضيلته أن قوماً سبقونا جاءتهم اللعنة على لسان نبيين من أنبياء الله تعالى، لما أن صارت حالهم إلى تلك الحال، بل إنهم أنكروا المنكر في أول أمره، ولكنهم ألفوه فيما بعد، فما عاد بعضهم ينكره على بعض وقد أخرج الترمذي - وحسنه- وأبو داود من حديث عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)، ثم قرأ قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ، تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ{ثم قال صلى الله عليه وسلم: (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم).
تحذير من تعطيل الشعيرة
وحذر فضيلته من أن تعطيل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحرم المجتمع من إجابة الدعاء، وفتح أبواب السماء له، كما جاء عند أحمد والترمذي من حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم).
وأضاف فضيلته متعجباً أي حرمان يعيش فيه ذلك المجتمع، وأي شيء يبقى له حين تحجب عنه أبواب الإجابة، فقد دخل رسوله الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على عائشة رضي الله عنها وقد تغير وجهه، فعرفت عائشة أنه قد حضره أمر قد أهمه، قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ ولم يكلم أحداً حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: (أيها الناس، إن الله يقول مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم) فما زاد عليهن حتى نزل).
وبين استغرابه بقوله أو حقاً يدعو الناس فلا يستجيب الله لهم، وهو القائل {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ}وأجاب نعم، إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! بأنها حقيقة ترتجف لها النفوس فرقاً، ويقشعر الوجدان منها رعباً.
وقال ماذا يبقى للناس إذن؟؟ ماذا يبقى لهم إذا أوصدت من دونهم رحمات الله؟ ولمن يلجؤون وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب، فهل كتب الله ذلك الأمر المهول على عباده المسلمين؟
وأجاب نعم، حين يكفون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو بأضعف الإيمان.. حين يتكاسل الناس عن هذا الواجب المقدس، وحينما يتواكلون، فالشر يغري ويهيج، والمنكر يعلن ويذاع به ويدافع عنه وقد جرت سنة الله بذلك، فالمتأمل في التاريخ يجد أن أي أمة تراخت وأهملت، وتركت الباطل يسيطر على شؤون الناس فلم تغير عليه، وتركت الحق يذوي ويستذل، فلم تنصره فهي الأمة الفاشلة، وهي الأمة التي حل بها الدمار. قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، فتدعونه فلا يستجيب لكم) أخرجه الترمذي وحسنه. ومن الذي يأمن مكر الله {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}.
وخلص فضيلته إلى أن النجاة من ذلك بفضل الله تعالى أولاً ثم بتحقيق تلك الشعيرة، وكما قال سبحانه وتعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.
مكانة الأمر بالمعروف
وأكد فضيلته أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أوجب واجبات الشرع، بل قد عدّه بعض العلماء من أركان الإسلام، وقد فرضه الله تعالى على الأمة فقال سبحانه وتعالى:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}وروى الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). وقال الإمام الغزالي رحمه الله: (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهمة الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين)، وقال ابن حزم: (اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منها). وقد اعتبره عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرطاً رئيساً في الانتماء إلى صفوف هذه الأمة، فقد قرأ قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}ثم قال: (أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها)، وقال الإمام النووي: (وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره) فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة. وقد تطابق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة. ا هـ.
وقال فضيلته وبتحقيق تلك الشعيرة تتحقق الخيرية الموعودة بكتاب الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}وفشوها في المجتمع دليل إيمانه ومعدنه النقي قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}وإذا عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمع كان إلى النفاق أقرب منه للإيمان كما أخبر الله تعالى بقوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
* إدارة العلاقات العامة والإعلام بالرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر