الجزيرة- خاص
الملف الذي فتحته (الجزيرة) عن (منابر الجمعة في مواجهة الفكر التكفيري والإرهابي)، كشف الكثير من الحقائق حول الدور المهم للخطباء والأئمة والدعاة في مواجهة الفكر الضال، واستراتيجية وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في حشد إمكانات وقدرات الدعاة في هذه الحرب الشرسة.
وفي هذه الحلقة تختتم الملف بالتأكيد على أنّ الحرب مستمرة حتى يقتلع الإرهاب من جذوره .. فماذا يقول فرسان المنابر عن أمر الحرب على التكفير والإرهاب؟!
حديث مستمر
بداية يحدد الشيخ حمدان بن محارب الوردي (إمام وخطيب جامع المويشير بسكاكا بمنطقة الجوف) بعض النقاط التي قد تساهم في جعل الخطبة مؤثرة تجاه هذه الأحداث التي آلمتنا وآلمت مجتمعاتنا.
أولاً: أن لا يقتصر الخطيب عن هذا الفكر عندما يوجه إليه تعميم أو خطاب من فروع الوزارة، بل يجعل الخطيب الحديث عن هذا الموضوع على مدار السنة في خطب متفاوتة وحتى لا يفهم المستمع أن الحديث عن هذا الفكر توجُّه الوزارة وليس توجُّه الخطيب، أما إن كان الكلام عن هذا الحدث في عدة خطب يصل المراد إلى المستمعين في وضوح وشفافية.
ثانياً: لا يقتصر الخطيب حول هذا الموضوع على الاستنكار فقط بل لا بد من طرح الشُّبه التي تستند عليها هذه الفئة وتوضيح الأدلة التي يستدلون بها على أباطيلهم، بل ويتعدى حديث الخطيب عن مقاصد الشريعة الإسلامية من الحفاظ على الضرورات الخمس والوحدة والائتلاف وعدم الفرقة، ويتحدث لوازم الولاية الشرعية .. هذا التفصيل لا بد من طرحه ومناقشته طوال العام.
ثالثاً: لا ينظر الخطيب في بداية طرحه لهذه القضايا إلى كلام بعض المخذلين لأن الواجب على الخطيب أن يقول ما يملي عليه الكتاب والسنّة وإيضاح ذلك رضي من رضي وغضب من غضب، وعند ذلك يجد قبول كلامه وزيادة المصلين لديه لأن الله هو الذي يجعل لكلامه قبولاً بين الناس إذا أرضى الله وسخط الناس.
وقد يكون كلام بعض الناس جهلاً منهم بمقاصد الشريعة الإسلامية ولا ينظرون إلى هذه الأمور إلا بمنظار ضيق، أما الخطيب فينظر بمنظار أوسع يدعو إلى الوحدة والائتلاف والتواصي بالحق وإنكار المنكر بالطرق الشرعية التي حث عليها الشارع الحكيم.
الثقة بأهل المنابر
أما الدكتور عثمان بن صالح العامر (إمام وخطيب جامع التركي بمدينة حائل) فقال: هناك أدوار ومسؤوليات مؤسسات التنشئة الاجتماعية في المجتمع الإسلامي وعلى رأسها المسجد، ذلك لأنّ المشكلة في الأساس مشكلة عقدية - تربوية - فكرية، والوجه الأبرز فيها البناء القيمي لهؤلاء الإرهابيين الذين تربوا وللأسف الشديد بيننا، ويحضرون معنا الجمعة والجماعات، ومنبر الجمعة كما هو معلوم معني في الأساس ومناط به شرعاً طرق هذه الأبواب والتعريج على المشاكل ذات المساس المباشر بالفهم الصحيح لدين الله، والواقع المعاش، وخطيب الجمعة منتظر منه أن يقي أبناء المجتمع ويلات الفهم الخاطئ للدين والمعرفة المشوشة للواقع، يحفزه ويدفعه للقيام بهذا الدور دوافع وبواعث خمسة هي بإيجاز، الدافع الديني، والدافع الوطني، والدافع المجتمعي، والدافع الإنساني، والدافع الذاتي.
ولكون المصاب جللاً والتطلعات والآمال والثقة بالمنبر - من قِبل ولاة الأمر والعلماء بل وحتى عامة الناس والدهماء - كبيرة، لهذا وذاك يظهر على أرضية الحوار وحين النقاش سواء في المنتديات أو اللقاءات أو الجلسات الرسمية أو غير الرسمية الخاصة أو العامة الجماعية أو الثنائية، يظهر ويتكرر السؤال المهم والمشروع في ذات الوقت .. ترى هل قام الخطباء بدورهم المرتقب إزاء هذا الداء الفتاك بجسِّد هذه الأمة وعلى أرض هذا الوطن المبارك والمعطاء، هل كشفوا أوراق هذه الفئة الضالة الذين يصدق عليهم أنهم خوارج جدد يأكلون على فتات موائد القدماء المعروفين، وأنهم بغاة عصاة باعتبار خروجهم على الإمام، وأنهم محاربون قطعوا السبيل وأخافوا الناس وهتكوا المحارم وسعوا في الأرض فساداً، وأنهم غلاة متنطعون متطرفون جاوزوا الحد بالتشديد من وجوه عدة ذكرها الباحثون والكتّاب، وأنهم إرهابيون وأنهم ...؟؟
ومع أنني لا أملك الإجابة القاطعة ولا أعرف هناك دراسة ميدانية راصدة، فإن ما اطلعت عليه من تصريحات رسمية من قبل معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، تدل على أن الخطباء قاموا بدورهم ومن شذ وهو قليل فقد تمت مساءلته .. والذي أراه في هذا - وهو لا يعدو أن يكون رأياً انطباعياً - أن الخطباء أحد ثلاثة:
* عرض للإرهاب وبالغ في التهويل والتخويف وانطلت عليه بعض الاتهامات التي قالها الغرب حيال عدد من مؤسسات التنشئة الاجتماعية سواء الرسمية أو الخيرية المصرح لها والمراقبة من قِبل أجهزة الدولة ذات المسؤولية المباشرة عن هذه المؤسسات وعدد هؤلاء فيما يغلب على ظني عدد قليل.
* لم يعرض للإرهاب إلا حين يبلغ بخطاب رسمي ويعمد بوجوب تخصيص الخطبة القادمة للحديث عن حدث إرهابي وقع، أو أنه وللأسف الشديد لم يتحدث البتة عن هذا الموضوع بصورة مباشرة، أو أنه وإن عرض للإرهاب فهو لم يلامس الفكر التكفيري الذي يتكئ عليه الإرهاب أساساً .. وهذا إن وجُد فهو قليل ولا يكاد يذكر إذا ما قيس بعدد المساجد في هذه البلاد المباركة المملكة العربية السعودية، وقد تمت حسب علمي مساءلته وربما تطور الأمر إلى أكثر من ذلك.
* عرض للإرهاب والتطرف والغلو بصورة مباشرة وغير مباشرة متخذاً أحد المناحي التالية لعرض الموضوع المنحي المعرفي والبياني، والمنحى الاعترافي، والمنحى الوقائي، والإشادة بالدور العلاجي الذي اتخذته الجهات والمؤسسات والأجهزة المناط بها حماية الأمن في تعاملها مع هذا الداء ومتابعتها ورصدها للمنتمين إلى هذه الفئة الضالة.
ومع كل هذا فإنني أعتقد أن الأمل بالخطباء كان أكبر وتطلعات ولاة الأمر والعلماء للدور الذي يقوم به المنبر كان أعظم، وهذا جزماً نابع من شعورهم بأهمية المسجد وثقتهم بالإمام والخطيب، ولمعرفتهم الدقيقة بعظم المصاب الذي حل بسبب الإرهاب، وما ولج هذا الداء إلى بلادنا وما ركب موجته من يعيشون بيننا إلا نتيجة خلل ما موجود في مؤسسة التنشئة الاجتماعية لدينا، والمنبر هو من يناط به التذكير كل أسبوع بالمنهج الحق في الفهم والسلوك وبيان العقيدة الوسطية الصحيحة التي يجب أن تكون هي سفينتنا في سيرنا إلى الله .. ومتى بقي في المجتمع من يتبنّى هذا الفكر أو يتعاطف معه أو يبرر له لأي سبب من الأسباب، فنحن ما زلنا بحاجة إلى إعادة الحديث عن هذا الموضوع الخطير .. إن الآمال والتطلعات تتجه للخطباء ليكون على أيديهم الوقوف عند الدور الوقائي من مثل هذه الأدواء القاتلة، حتى يأتي اليوم الذي لا نحتاج فيه إلى علاج (والوقاية خير من العلاج) وهو بإذن الله يوم قريب.
تقصير الدعاة غير وارد
ويطالب الدكتور أحمد بن نافع المورعي (إمام جامع عبد الرحمن فقيه بمكة المكرمة) الجميع وخاصة العلماء والدعاة وأئمة المساجد وخطباؤها بواجب عظيم في بيان الحق للشباب ووصف الطريق الأسلم لهم وتوعية الناشئة وتبصيرهم بسلامة المنهج، والشباب بأمس الحاجة لمن يفتح قلبه لهم ويجلس إليهم ويسمع منهم ويلين القول لهم، لأن المساجد قنوات ينبغي أن تكون قلاع أمن فكري وحصون أمان توعوي تتهاوى أمام قوة رسائلها وعظيم تأثيرها سهام الخلل الفكري، ولا يمكن لأحد أن ينكر الدور الكبير الذي كان يقوم به المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما اتخذ المدينة المنورة مقراً ومهداً لبناء الدولة، بادر إلى بناء المسجد ليكون نواة أولى لمشروع تلك الدولة المسلمة التي تتحرك في ظل شعار الله أكبر، ولقد عظم الإسلام المسجد وأعلى مكانته ورسخ في النفوس قدسيته، عندما أضيف المسجد إلى الله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} إضافة تشريف وتكريم، ولم يكن المسجد يوماً ما مكاناً للطاعة والعبادة ومقراً للصلاة والتهجد فقط، بل هو بالإضافة إلى ذلك تاريخ حافل بالإنجاز وموئل يلتقي فيه المسلمون لتلقي المواعظ والإرشادات والاستماع إلى النصائح والتوجيهات، وينصتون إلى ما يلقى فيه من الوصايا والعظات، ويعرضون فيه ما يحدث بينهم من عوائق ومتغيرات ويتناولون فيه ما يطرأ في مجتمعهم من تغير واختلافات ويتشاورون فيه كل مختلف القضايا والمشكلات، فرسالة المسجد رسالة شاملة ومتنوعة تنتظم مجالات مختلفة لنشر القيم الإسلامية وغرس الآداب والأخلاق الحميدة وإبرازها، وللمسجد مآزر الإيمان ومنبع النور والتلقي ومنارة الأمن والسلام والهدى، ودوره في حياة المجتمع المسلم واضح لا يخفى وراسخ لا ينسى، فهو الدعامة الأولى والركيزة الكبرى لتحقيق الأمن الاجتماعي وتعميق الوحدة ونبذ الفرقة، وتغذية الأمة بالتوجيه الروحي والفكري، ولئن كانت تلك المعاني ثابتة لمن تأمل رسالة المسجد إلا أنها لن تكون ذات أثر فاعل إن لم يعن إمامه وخطيبه بإبراز تلك المعاني وإظهار القيم السامية لدور المسجد المؤثر في حياة الفرد والمجتمع، فالمسجد يتردد عليه كل يوم أعداد كبيرة من المصلين لأداء الصلوات الخمس وتزداد جموعهم في نهاية الأسبوع لأداء صلاة الجمعة، وتتباين إفهام المصلين وتتفاوت ثقافتهم لذلك فهم يحتاجون إلى التذكير والتنبيه واستغلال حضورهم للإرشاد والتوجيه ومعالجة مشكلات المجتمع والإسهام في إصلاح الحياة العامة وإعادة الفرد إلى قواعد الدين ومبادئه وإشاعة روح المودة والإصلاح بين الناس، وقد نالت قضايا الإرهاب والتكفير الاهتمام الكافي من مجموعة كبيرة من الخطباء وإن كان هناك مجموعة لم تتفاعل مع الموضوع التفاعل الذي ينبغي أن يكون عليه تفاعل الخطيب مع مثل هذا الموضوع، لكن في الجملة فإن أكثر الأئمة والخطباء كان تفاعلهم مع الموضوع تفاعلاً إيجابياً وبدرجة كبيرة، والمعالجة لهذا الموضوع في نظري عند كثير من الأئمة لم تركز على اجتثاث الفكر التفكيري من حيث تناول أطروحاتهم الضالة، وقد يكون عذر بعض الأئمة أن إثارة الشبه وخاصة لدى العامة، ربما يسبب شيئاً من الفتنة ومعهم حق في ذلك، أما اتهام البعض لخطباء الجمعة بأنهم لم يعطوا هذه القضايا الأهمية في خطبهم، فهذا أمر فيه نظر ويحتاج إلى نوع من الاستقصاء للتدليل على ذلك، فما سمعته من الأئمة ومن الناس يقول عكس هذا الاتهام، وهذه القضايا تحتاج إلى التقصي حتى يحكم بالصدق لها والله أعلم.
مسألة تاريخية
ويوضح الدكتور عدنان بن حسن باحارث (إمام وخطيب جامع الأميرة الجوهرة بمكة المكرمة): أن خطبة الجمعة لم تأت لفرض واحد بعينه، وإنما جاءت عبادة ألزمنا الله بإقامتها، تحوي توحيد الله تعالى, الثناء عليه بما هو أهله، وتشمل الصلاة والسلام على سيد الناس محمد صلى الله عليه وسلم، وفيها شيء من القرآن والأحاديث، والفرض منها - بعد تحقيق العبادة - هو الوعظ التربوي، الذي يصلح الله تعالى به القلوب، ويوقظ به المشاعر، فإن الوعظ أسلوب من أساليب التربية الأصيلة، استخدمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأثر به في الصحابة غاية التأثير، حتى إن أحدهم من شدة وعظه يضع رأسه بين رجليه يبكي.
ثم انتشرت المنابر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذت عبر تاريخ طويل تتناول ما يهم المسلمين في دينهم ودنياهم، تلاه الخلفاء، والعلماء، والفضلاء، ما بين واعظ ومنبِّه، وشارح، وموضح، الكل من النبع الصافي يستقي، فهذا يوضح آية من كتاب الله، وهذا يشرح حديثاً من السنّة، وهذا يوضح حكماً شرعياً، وهذا ينبِّه على سلوك سيئ، وهذا يتحدث عن ظاهرة اجتماعية، وهكذا يتناول الخطباء في القديم، والحديث، شؤون الأمة في مجتمعها الصغير، وامتدادها في المجتمع الإسلامي الكبير .. ومن القضايا التي تناولها الخطباء على مر التاريخ الإسلامي، في مناسبات مختلفة ومتنوعة، مسألة التكفير والتطرف والغلو، ابتداءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومروراً بالخليفة الراشد علي بن أبي طالب إلى غيرهما من العلماء والفضلاء ممن تصدوا للانحرافات الفكرية والسلوكية.
ولمّا كان المنبر في الإسلام يمثل مصدراً من مصادر الحق، المعبِّر عن الدين في أفضل وأحسن صورة، حين ينطلق من جوار المحراب في بيت الله تعالى، فإنه يكسب من ذلك تأثيراً خاصاً في نفوس المصلين، وثقة كبيرة ليست لأي مصدر آخر من وسائل الاتصال المختلفة، فالمنبر والمعلومة والأسلوب، والفكرة، كلها في حس المصلي من الدين الذي لا بد من احترامه، وأخذه بعين الاعتبار، إن الفكر المتطرف والغلو والتكفير وغيرها من السلوكيات المستقبحة كالخيانة والخداع والغش، والكبائر كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، ونحوها .. كل هذه السلوكيات والأفكار فإن للمنبر دوره الفعال في محاربتها، والتنبيه عليها، ولقد تصدى في بلادنا خطباء المساجد لكثير من الانحرافات الفكرية والسلوكية، وأعطوها حسب استطاعتهم حقها من البيان والتوضيح، رداً وتوضيحاً وبياناً، إلا أن بعضهم قد يكون أبلغ من بعض، وأجود في بيان الحق، وتوضيح الحجة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وما قد يُتهم به الخطباء من التقصير، قد يكون فيه شيء من الحق من جهة ضعف القدرات، لا من جهة التعاطف مع الفكر المنحرف، فإن الخطباء كما هو المفروض وجميع المسلمين - (لا بد أن يدينوا الله بالبراء من الغلو) كما يدينوا الله بالبراء من الكبائر، وجميع السلوكيات المنحرفة الأخرى.
وأما الحديث عن ضعف أثرهم، فإن الخطب توجَّه عادة لعامة الناس، وأما من يحملون الغلو فعادة لا يحضرون إلى المساجد ولا يصلون خلف الأئمة لما يحملونه من الفكر المنحرف والغلو، ومن هنا يكون التأثير في هذه الفئة ضعيفاً، ولعل المطلع من المسؤولين يلاحظ ذلك من الفئة الضالة، كم هو حجم الجهد المقدم لهم داخل المعتقلات لتغيير فكرهم، ومع ذلك تبقى النتائج ليست إيجابية تماماً، بل ملؤها التوجس والشك والله المستعان.