لقد حققت الوفورات النفطية لدول الخليج مصدرا للطفرة الاقتصادية التي شهدتها تلك الاقتصادات في الفترة الأخيرة، فباستثناء الصين والهند فقد سجلت الاقتصاديات الخليجية أعلى معدل للنمو في العالم في الأعوام 2006م و2007م، حيث بلغت معدلات نمو غير مسبوقة في هذين العامين تراوحت ما بين 6% و7%.
وقد كانت تلك الوفورات مصدرا للعديد من التحديات التي شهدتها المنطقة في نفس الفترة، وكان على رأسها ارتفاع وتيرة التضخم الناتج عن اختلال التوازن بين الكميات المعروضة من السلع والخدمات وطلب المستهلكين عليها، وهذا الاختلال يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع نتيجة تزايد الطلب وانخفاض القوة الشرائية للعملة، وأمام هذا بلغ التضخم نسبا عالية، فقد أشار التقرير الاقتصادي الخليجي 06-2007م، أنه وصل في الإمارات نحو 8.5%، وفي قطر 7.2%. وفي السعودية أكبر دول المنطقة التي تحتوي على أكبر كميات من احتياطيات النفط نحو 0.5%. في حين بلغت في عمان 1.1% والبحرين 2.5% وقطر 7.2% والكويت 4% ورغم تشابه البنى الاقتصادية لدول مجلس التعاون إلا أن تفاوتا ملحوظا يمكن أن تلمسه في معدلات التضخم فيها، يرجع ذلك إلى التباين في معايير قياس التضخم من دولة إلى أخرى، فضلا عن اختلاف سنة الأساس لقياس التضخم. ويتوقع أن تستمر معدلات التضخم بالارتفاع مع استمرار نمو اقتصادياتهم، وفي هذا الإطار بات التضخم حديث المجالس العامة والخاصة في المنطقة، كلهم مستفسرين عن أسبابه، وطبيعة معدلاتها، وكيفية مواجهة هذا التضخم من قبل السلطات النقدية في هذه الدول الخليجية أو تلك.
ففي حقيقة الأمر تتعدد الآراء حول مسبباته فمنها ما يتعلق بالشأن الداخلي وأخرى ترتبط بالتطورات العالمية، بداية كان للنمو الاقتصادي الخليجي دور بارز في رفع معدلات التضخم، فقد سجلت دول المجلس نموا ملحوظا في الناتج المحلي الإجمالي في بعض دول المنطقة وخصوصا الإمارات وقطر إذ فاق 15% في العامين 2005م و2006م (النمو الاسمي شاملا التضخم)، كما بات تسجيل نسبة حقيقة بنحو 7 إلى 8% مسألة عادية في دول المنطقة في الآونة الأخيرة، لا شك أن نسبة النمو هذا كانت مصحوبة بزيادة في مستوى الأجور تتراوح ما بين 15% و24%. وأمام تلك الزيادة، رفع القطاع الخاص الرواتب والأجور بنسب بلغت بالمتوسط في دول المجلس الست 9%.
هو ما يشكل ضغطا على الطلب (ومن ثم الواردات) مع الأخذ في عين الاعتبار بأن أسواق دول مجلس التعاون تتميز باستيراد غالبية احتياجاتها من الخارج لكونها اقتصادات استهلاكية، وهو ما يعني أن القدرة الاستيعابية للاقتصاد الخليجي ما زالت ضعيفة، رغم التوسع الكبير الذي طرأ على العديد من التجهيزات الأساسية التي عانت في السنوات الأخيرة من عجز على مجاراة الطلب المتزايد عليها، والمتركز حاليا في إقامة مختلف المشروعات التنموية الضخمة سواء في مجال البنية الأساسية أو تنمية القطاعات الرامية إلى إحداث تنويع تدريجي للاقتصاد الخليجي يقلل من الاعتماد شبه المطلق على إيرادات صادرات البترول الخام.
ولم يكن ضعف القدرة الاستيعابية للاقتصاد الخليجي وحدها سبب التضخم، فهناك عوامل أخرى داخلية ساهمت وتساهم في إحداث مزيد من هذه الضغوط التضخمية لعل من أهمها الآتي:
1- السيولة النقدية الضخمة التي ما تزال تضخ في مختلف القطاعات الاقتصادية، لا سيما في ظل المعدلات المنخفضة نسبيا لأسعار الفائدة في دول الخليج، الأمر الذي يزيد من القدرة على الاقتراض.
2- إن هذا التوسع في الإنفاق الاستثماري والاستهلاكي العام والخاص، وهذا من منطلق اتجاه الحكومات الخليجية على استثمار الفائض التجاري في مشاريع البنى التحتية، والتعليم، والصحة، وغيرها. وكل هذا زاد من الإنفاق الحكومي في دول الخليج، وزاد الطلب بشكل كبير على الكثير من المواد كالأسمنت، والحديد، وغيرها، مما رفع من تكلفة الإنشاءات وبالتالي ارتفعت الإيجارات بنسب تراوحت بين 25 و60% في معظم دول الخليج، وانعكست بشكل مباشر على معدل التضخم.
ويضاف إلى ما سبق أن دول الخليج تعد جزءا لا يتجزأ من المنظومة الاقتصادية العالمية، فتتأثر وتؤثر على الأوضاع الاقتصادية في العالم، ومن هنا فإن بعض أسباب التضخم تعود إلى أمور دولية مثل ارتباط عملات دول مجلس التعاون بالدولار وارتفاع كلفة التشغيل في بعض الدول المصدرة، وهو الأمر الذي يعرف ب(التضخم المستورد)، نتيجة الطلب العالمي المتزايد عليها، وبما أن دول الخليج مستوردة لمعظم احتياجاتها من مختلف السلع والخدمات، فكان لابد أن تتأثر بهذه الموجة العالمية من ارتفاع الأسعار العالمية، ناهيك عن الارتفاع الذي طرأ على أسعار صرف العملات الرئيسية مثل اليورو والين الياباني مقابل الدولار، الذي فقد 20% من قيمته.
سميت تأثرات العملات الخليجية المرتبطة به، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات المستوردة من دول هذه العملات، لا سيما وأن نحو 35% من واردات دول مجلس التعاون الخليجي هي من أوروبا، وأن نسبة الواردات من الولايات المتحدة لا تشكل أكثر من 10%.
ولم يقتصر الأمر على ضعف الدولار وحسب، إنما ساعدت القرارات المتلاحقة من المصرف الاحتياطي الفيدرالي بخفض الفائدة إلى زيادة نسب التضخم في دول الخليج بصورة مخيفة وانخفاض القيمة الحقيقية للعملات الخليجية.
وعلى الرغم من أن التضخم يعد ظاهرة عالمية لا يسلم منها أي اقتصاد في فترة من الفترات، وقد سبق وعاشته دول مجلس التعاون الخليجي في فترة الطفرة الاقتصادية الأولى للمنطقة في السبعينيات من القرن الماضي، إلا أن المواطن الخليجي محق في هذا القلق، فهو يرى أن القوة الشرائية لدخله آخذة في التآكل التدريجي، بالإضافة إلى المزيد من العواقب السلبية على اقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي، من منطلق أنه ستؤدي إلى بطء معدلات النمو وزيادة الضغوط على الحكومات لرفع مرتبات العاملين، خاصة وأن ما يحصلون عليه لم يعد كافيا لمواجهة ارتفاع الأسعار، فضلا عن أن التضخم يؤدي إلى تشوه قرارات الاستثمار والادخار والإنتاج، وكذلك ضعف التنوع الاقتصادي الذي تنشده دول المجلس، بدلا من الاعتماد على عائدات النفط كمورد رئيس للبلاد.
وانطلاقا من تلك العواقب، فقد تعامل الاقتصاد الخليجي مع التضخم رغم عدم قدرة متخذي القرار الاقتصادي في المنطقة على الحد من ارتفاع مستوى التضخم في البلاد لارتباطها بعوامل متنوعة مرتبطة بالاقتصاد العالمي، إلا أن الجهات المعنية عمدت لبذل كل ما يمكن لإبقائه في مستويات معقولة، من خلال دعم بعض السلع الأساسية وخفض الجمارك أو إلغائها عن بعضها.
وسعيا لمحاربة هذا التضخم والحفاظ على الهامش مع الفائدة على الدولار الأمريكي، رفعت كل من الإمارات والبحرين وقطر نسب الفائدة المحلية، بينما خفضت عمان سعر الفائدة للاستفادة من نسبة التضخم الضعيفة، الناتجة عن ضعف حركة الإقراض لديها.
ورغم ذلك فإن توقعات صندوق النقد الدولي تشير إلى استمرار معدلات التضخم المرتفعة، وهو ما يهدد على المدى القصير جهود الإصلاح بهذه الدول وقدرتها التنافسية وبرامجها لتنويع مصادر دخلها، وأمام هذا الأمر فقد عقد مؤتمر موسع في دبي، خلال شهر فبراير الجاري لمناقشة أبعاد هذه القضية من حيث ارتباطها بالانخفاض المتواصل للدولار الأمريكي أمام كافة العملات الرئيسة، وبحث السبل الواجب اتخاذها من جانب دول مجلس التعاون لتقويض آثار معدلات التضخم المرتفعة على قطاع الصناعات الرئيسة، ويعمل المؤتمر على إقناع الدول النامية بأهمية تطبيق قوانين تشجيع المنافسة ومنع الاحتكار الذي يعد سببا لا يستهان به من أسباب التضخم، وذلك في سياق برامج الإصلاح الاقتصادي التي تقوم بها، فعندما تخضع الأسواق للمنافسة الكاملة يحصل المستهلكون على المنتجات والسلع بأسعار رمزية وبالكميات التي يحتاجونها، ولا تكون هناك حاجة لتحميل السلع بمصاريف ترويج المبيعات، وبذلك يتحقق للمستهلك أقصى مستوى من الرفاهية.
كما يعد تحسين مناخ الاستثمار من أهم السياسات للتخفيف من حدة السيولة، وهو ما يتطلب إصلاح بيئة أداء الأعمال، وتشجيع الاندماج بين المؤسسات المالية في المنطقة، خاصة مع زيادة اندماج حركة المصارف العالمية سواء في نطاق الدولة الواحدة أو عبر القارات.
وفيما يختص بالقدرة على الحد من العوامل العالمية التي تسببت في التضخم فقد أحدث الربط النقدي بين العملات الخليجية والدولار الذي يعد أحد أسباب التضخم، جدلا واسعا بين مؤيد ومعارض لفك الارتباط بالدولار وإن كانت الكويت اتخذت تلك الخطوة بالفعل في مايو 2007م، ودعا بعض الخبراء الدول الخليجية إلى الاتفاق على آلية جديدة لتسعير عملاتها للتخلص من الآثار قصيرة وبعيدة الأمد لضعف الدولار.
ولكن بالنسبة لباقي دول مجلس التعاون الخليجي، يعتبر أنه لا حاجة لدول الخليج لأن تتخلى عن ربط عملاتها بالدولار نظرا لأن قيود العرض هي أحد الأسباب الهامة التي ترفع من معدلات التضخم، ومنها نقص المواد الخام أو الأيدي العاملة فهذا وليس ارتفاع الطلب وحده.
ويمكن القول إن على السلطات النقدية في دول الخليج في إطار متابعة معدلات التضخم في دولها، محاولة دراسة كل البدائل المتاحة لديها، واختيار الفعالة منها ذات التكلفة الأقل على الاقتصاد والمجتمع للحد من الارتفاع في معدلات التضخم سواء التي كانت لسبب تزايد الطلب أو تزايد التكاليف.
Asa5533@hotmail.com