في الجزء الأول من هذه المقالة كنت قد أشرت إلى مفهوم هذا التعاون الأمني بين الشرطة والمجتمع, وأهمية تأطير هذا التعاون ليتم عبر آليات قانونية يعمل الجميع بموجبها. وهنالك الكثير من الدول -والمدن الكبرى فيها على وجه الخصوص- من قطعت شوطاً كبيراً, في مجال دمج جهود المجتمع وتعاونه لصالح أعمال الشرطة
وفي أدبيات الشرطة في الدول التي تنفذ هذه الفكرة السامية, هنالك تأكيدات تشير إلى أن مستوى فعالية وتنظيم شرطة المجتمع, يحدد فعالية نتائجها. وحينما تصبح إدارات شرط المدن والمناطق فاعلة في دمج جهود المواطنين, والاستفادة منهم ضمن إطار واضح, تحكمه فلسفة أمنية, لها استراتيجية معتمدة وممولة, ولها أهداف محددة, وإجراءات عمل مرنة, وخطط مستمرة, فإن التوفيق والنجاح سوف يكون حليفها.
وهكذا نستطيع القول: إن شرطة المجتمع ليست إلا عملاً تعاونياً منظماً, تشترك فيه أطراف من السكان أفراداً ومؤسسات, مع أقسام وإدارات الشرط في مدنهم وأحيائهم السكنية, لتحقيق مستويات أفضل في مجال الأمن. ومن الأولويات في الشأن الأمني, أن يسهم المجتمع مباشرة في تحديد المشكلات الأمنية, ثم المساهمة بالعمل على تقديم الحلول لمشكلات الأمن. وبالعلاقة المباشرة بين مجاميع كبيرة من السكان المنتشرين في كل مكان, يصبح الأمن معززاً من الجميع, وقوياً بأدوار السكان الفعلية. وبمساهمات السكان وأفكارهم وحلولهم, لمنع تفشي الجريمة وحصرها في أضيق حدودها, يكتمل تحقيق الأهداف.
وما يحدد الفرق بين جهاز شرطة وآخر, في تحقيق مستويات محترمة من الأمن, هو مدى ما يتحقق لهذه الشرطة أو تلك, من قيادات قادرة على إدراك أبعاد الأمن, وما يتطلب تحقيقه من مفاهيم فلسفة الأمن؛ التي يجب أن تختلف معطياتها من بيئة إلى أخرى. فلا يمكن أن يتحقق الأمن في مدينة مزدحمة بالسكان, بنفس الأساليب التي يتحقق بها في القرى والضواحي؛ أو أيضاً في بيئات أخرى مختلفة. وفي ذلك, تبرز الفروق في وعي وكفاءات القائمين على وضع وتنفيذ خطط الأمن. كما أن فن قيادة الرجال والتأثير فيهم, ومهارة التعامل مع المجتمع, والمقدرة على حسن تسخير الموارد وتوازن استخدامها في خدمة الأمن, عناصر مهمة لمضاعفة نتائج أي مجهودات أمنية.
وحتى تنجح مجهودات الشرطة في منع الجريمة, ورفع مستوى الأمن, وبالتالي غرس الثقة والإحساس بالأمن في نفوس المواطنين المستهدفين, فإن تطبيق مفهوم شرطة المجتمع لابد أن يستلزم إعادة تحديد أهداف أقسام الشرط في الأحياء والمناطق المستهدفة, بعد تقييم جهود المواطنين ودمجها في خطط العمل والاستفادة منها.
وحين يتم دمج جهود السكان في منظومة الشرطة, فإن ذلك يوجب تغيير طبيعة الأعمال الميدانية, وأعمال القيادة والسيطرة, وعدد الدوريات. وسوف يكون لبرامج الاتصال والتبليغ, وكذلك ضباط الاتصال بين المجتمع والشرطة أثر كبير. ولا شك أن هذا النوع من التعاون الاجتماعي الأمني, يعتمد أولاً وقبل كل شيء على السرعة في البلاغات, وكذلك دقة المعلومات ووضوحها أيضاً. ومن الطبيعي أن لدى دوائر الشرطة أساليبها, في جمع وتصنيف وتحليل وتوزيع المعلومات الأمنية, بما تتضح من خلاله حالة الأمن؛ ولذلك تصبح تصورات القائمين على توجيه الأمن أقرب إلى الواقع. وكلما كانت أدوار المواطنين نشطة ومتفاعلة, كلما تراكمت الفائدة, وانتشر الإحساس بأن الأمن مسؤولية الجميع. وعبر شرطة المجتمع, تصبح حراسة المناطق, والسهر عليها واليقظة فيها, وتحليل أوضاعها وكشف المشتبه فيها, شأن يهم الجميع؛ مما سوف يوجد عامل ردع قوي, في وجه مخالفي النظام, ويزيد من أمن المجتمع وتماسك أبنائه.
ورغم تأثير المعطيات العاطفية والفلسفية, لإثارة اهتمام المواطنين وكسب تعاونهم, وتفهمهم لأدوار الشرط في حماية المجتمعات, وما تحتاجه من تعاون الجميع, إلا أن ذلك كله لا يكفي, ما لم تحول العملية التعاونية إلى ما يشبه التنظيم المؤسسي؛ القائم على فلسفة أمن خاص للتكافل الاجتماعي الأمني, عبر خطط طويلة, ومتوسطة, وقريبة المدى. وخطط الأمن التي تهدف إلى دمج جهود السكان للتعاون مع رجال الأمن, لا بد لها أن تنطلق من آليات عمل واضحة, وفيها وصف دقيق, لطبيعة الأنشطة ومجالات التعاون المطلوبة من المواطنين, وذلك كله طبقاً لقوانين ولوائح تنفيذية.
وهنالك الكثير من التجارب والدروس المستفادة في مجالات الشرطة المجتمعية, يمكن أن تستفيد منها الشرطة التي تقرر العمل عبر هذا المفهوم. وحتى يتحقق الأمن الشامل عبر تعاون وتكافل المجتمع, فإن بعض من الأكاديميات والمدارس الأمنية, تحول الدروس المستفادة والتجارب إلى تقنيات عمل وخطط مرنة قابلة للتنفيذ. كما أن استهداف رفع جاهزية وتوعية المجتمع في هذا الشأن, لا بد أن ينطلق من محاور أساسية متكاملة. فالمحور الأول, هو مجالات التوعية الشاملة للمجتمع كله, عن مفهوم الشرطة المجتمعية, والأدوار المطلوبة من المجتمع؛ على أن تتم هذه التوعية عبر برامج مكثفة ومستمرة. وأما المحور الثاني, فهو خاص بأولئك المواطنين القادرين على التطوع بوقتهم وجهودهم, للتعاون بأشكاله المطلوبة والمتاحة. ويتم تدريب المتطوعين وتوجيههم عبر برامج وندوات ودورات مستمرة, وعبر تزويدهم بالمعلومات أولاً بأول؛ وفي بعض الحالات يزودون بوسائل لها علاقة بشؤون الأمن, مثل وسائل الاتصال أو الإنذار المبكر. والمحور الثالث, يوجه لتدريب منسوبي الشرطة ليتمكنوا من تفهم وتطبيق آليات هذا التعاون بكفاءة واحترافية. فالتعاون مع المواطن المتطوع لتنفيذ مسؤوليات أمنية, عملية تختلف في فلسفتها كثيراً عن التعاون الرسمي بين منسوبي الشرطة مع بعضهم.
وفي قراءته لمسودة هذه المقالة, وتقديمه مشكوراً بعض الآراء القيمة, حيث أحرص على مشورته وأمثاله لمقدرته على التحليل والنقد, يقول المهندس أسامة كردي عضو مجلس الشورى: إن جمعيات المتقاعدين مدنيين وعسكريين ينضم إليها الآلاف سنوياً وبينهم الكثير من الكفاءات من القادرين على التطوع والعطاء, وسوف يكون لهم دور بناء في مثل هذه الفكرة الوطنية المهمة. وهذا القول, يتفق مع حديث زميل أمريكي من محبي المملكة, الذي يقيم فيها منذ أكثر من ست سنوات, ولم يتيسر له أن يجد الفرصة المناسبة التي يستضيف فيها والده لزيارته في المملكة. فمشكلة والده, أنه ما إن تقاعد من العمل الرسمي حتى انضم إلى عدد من الجمعيات التطوعية؛ مما أشغل عليه معظم وقته, وأدخل عليه مزيداً من السعادة والمكاسب المعنوية الكبيرة, لأنه يتطوع بوقته وجهده وخبراته, في خدمة مجتمعه ووطنه.
وخلاصة القول: إن قمة نجاح هذا التعاون, تتم حين يدرب المواطنون المتعاونون مع رجال الأمن, تدريباً مشتركاً على إجراءات أمنية محددة, تضمن وحدة المفاهيم, وتمكن الجميع من القدرة على الوصف والتخاطب بأساليب اتصال معتمدة ومحددة. وفي مجالات التدريب المشترك, لابد من ترشيد مقدرة المواطنين, لتقييم حالة الأمن بصفة عامة, والتمييز والتنبؤ في حالات معينة. وبتراكم الخبرة عبر التدريب والإرشاد والتقويم للأدوار التعاونية, يتمكن المواطن من حسن تحليل واقعة معينة, واختيار الأسلوب الأمثل لسرعة إيصال المعلومة إلى الجهة الأمنية. وهكذا تتراكم إيجابيات الشرطة المجتمعية, عبر تعاظم أدوار المجتمع الأكثر إدراكاً, والأكثر تعاوناً مع الشرطة, لصالح الأمن العام والأمن الوطني.
عضو مجلس الشورى
mabosak@yahoo.com