الوقت كنز أزلي منذ أن خلق الله الأرض ومَن عليها، وظل أغلى الأشياء عبر تاريخ الكون يشكل حضوره على امتداد الفضاء لا تطاله يد السلطان فتفرض عليه ضريبة، ولا يسطو عليه اللصوص فيبتكرون تقليداً لمفاتيحه لكسر المداخل وأخذ الخزانات، ولا ينفد أو يهلك بكثرة الاستغلال والاستهلاك، وهو الكنز الذي يتساوى في حيازته الأغنياء والفقراء، ويتدفق من بين أيدي أكثر من العاملين ويملكه المعدمون قبل الموسرين، وهو من أغلى ما وضع الله بين يدي خلقه، لا يقدر أمثلهم طريقة على الاستزادة منه إلا كما يستطيع أوضعهم الانتقاص منه.
يغدق على الخلق كاساته المترعة ساعات ودقائق وثواني، لا يفرق بين من يعطيه حقه ومن يعبث به كما يعبث الطفل بالدمية، يطل بروحه على النائم واليقظان كما يصل البدر بنوره على حبيس الزنزانة وعلى العاشق الولهان على حد سواء، لا يفرق بين الشعراء وعشاق الجمال ومحبي القمر وبين خفافيش الظلام التي تكره إطلالة القمر كما تكره الحشرات الماء.
لو أدرك الناس قيمة الوقت لما تنافسوا على شيء سواه، ولو استطاعوا لعبَّؤوه في قراطيس وباعوه بأغلى الأثمان.. لكننا لا نراهم يتزاحمون على بابه أو يتحاسدون عليه، أو يتغابنون من أجل الحصول عليه (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس.. الصحة والفراغ) (حديث شريف) ولا نجدهم تناحروا من أجله مثلما يتناحرون على مشرب للماء أو مرتع للكلأ أو شبر من الأرض، وسيظل رغم غفلة البعض عن وزنه وقيمته الحقيقية سر تقدم الشعوب الآخذة بناصيته وسبب تأخر الزاهدين في ثمرته، وسر نهوض أمة وركود أخرى، وانطلاق قوم وتخبط آخرين.
يستغله البعض حتى جزئيات الدقيقة الواحدة، ويهدره آخرون بالسنين والقرون ولا يكادون يلقون له بالاً، ويحسونه ثقيلاً عليهم كثقل الأزمة على صدور المأزومين، فالوقت ينبوع متفجر أمام أعين الناظرين، ومن لم يرتشف منه بقدر مرشد سيغرق تحت سيل نبعه الدافق وتغمره الأيام، ينحدر هذا الينبوع من أعلى إلى أسفل بسرعة خارقة إن لم تقطع الطريق أمامه قطعك.. وكما قيل (الوقت كالسيل إن لم تقطعه قطعك..) وهي أقوى من رواية (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك). لسببين: الأول أن السيف لا يقطع بمفرده، بعكس السيل، والثاني لا يمكن قطع السيف، بينما يمكن قطع السيل أي عبور مجراه قبل حلوله.
الوقت يسري منذ الأزل وسيظل سرمدياً يسقي الأرض ومن عليها دون تمييز بين الأشكال والألوان أو مواقع البشر والبلدان، لكن أول من عني به قدماء المصريين الذين أفادوا منه في معرفة فيضان النيل ومواسم الزرع، أما العرب والمسلمون فهم أول من اخترع آلة تحديد الوقت كدليل على اهتمامهم بقيمته ووزنه في حياتهم، وإلا ما تركوا لنا هذا التراث العلمي الهائل الذي ننظر إليه بعين الخجل والانكسار ولا نكاد نفيد منه شيئاً أكثر من الافتخار به. فهذا عباس بن فرناس الذي صنع آلة لتحديد الوقت سماها الميقاتة، وهو الرجل الذي طار في الفضاء مسافات بعيدة بعد أن صنع لنفسه جناحين من الريش فنسي الذنب فسقط على الأرض ميتاً، فترك لنا إرثاً عظيما في صنع الساعات بل الطائرات. وكذلك الساعة الرهيبة التي أهداها هارون الرشيد لأحد ملوك أوروبا فانبهر من إبداعها، وظن أن الجن تحركها فحطمها غير مأسوف عليها.
يدلنا ذلك على اهتمام المسلمين بالوقت وقيمته فكان بعضهم يقضي حياته كلها عملاً لا يترك هامشاً يضيع سدى باعتبار أن الحياة هي الوقت، فمن أهدر الوقت أهدر الحياة.
فهذا ابن حزم الأندلسي ألف في حياته100 مجلد في 80 ألف ورقة، وهذا عبدالملك بن حبيب السلمي في الأندلس المتوفى عام 238ه بلغت مؤلفاته ألف كتاب، ومات وعمره(53) سنة. ماذا يساوي الوقت بالنسبة لمثل هذا الرجل؟ وما قيمة الوقت لديه؟ إنه والله كنز عظيم لا يبتاعه بأي ثمن. وماذا يساوي الوقت بالنسبة لنا؟ هل نتصور أن أمثال هؤلاء كان لديهم هامش للضحك والمزاح أو التعليق على خلق الله أو دون ذلك؟.. الله أعلم.
الوقت في ديار خير أمة عنيت بوزنه، يهدر ويهان اليوم، كما يهان الكحل في مواطن استخراجه إذ يداس بالأقدام، وربما تتروث عليه الأنعام، ولكنه يحمله الآخرون بين الحدق والجفون، وها نحن ندوس على الوقت كما تدوس الأنعام على فضلاتها ومخلفاتها، ويعنى الآخرون بالوقت، كما يعنون بأرواحهم وأعينهم، بل أكثر من ذلك.
فإذا كان منطق الحضارة السائد اليوم يقول إن هناك عالماً ثالثاً ودولاً نامية توصف بالضعف والفقر وتشعر بالانهزام، فلأنها لا تعرف مكمن الكنوز والثروات التي ليس من الضروري أن تكون في باطن الأرض، بل تكون أحياناً فوق الأرض، فإذا عرف المرء قيمة الوقت وامتلك العزم وسخر قدراته البشرية وما بين يديه من مصادر طبيعية فلن تعوزه الثروات التي تخضع للميزان التجاري والتعرفة الجمركية فسيصنع العجائب والمعجزات.
قولوا لي بربكم، ماذا تملك اليابان (مثلاً) غير العقل والإنسان والوقت؟ وهل أهلتها الثروات لما هي عليه أم أسعفها الوقت وحده؟ فها هي اليوم تغزو العالم بمنتجاتها وتدخل كل بيت فيه، بل كل غرفة نوم، بل كل يد لتصنع أفخر الساعات لأناس لا يقدرون قيمة الوقت.
وهل كانت الصين بثرواتها الطبيعية وحدها تستطيع أن تفعل شيئاً مع سكانها البالغين حوالي ربع سكان العالم لولا عناية الدولة بالإنسان وجعله ركيزة التنمية الأساسية واهتمام الإنسان فيها بالوقت باعتباره أساس النهوض، ولعلكم تدركون خطة (الوثبة إلى الإمام) التي استخدم فيها الصينيون الوقت أكثر من أي شيء آخر لتحقيق تلك الوثبة قبل نصف قرن من الآن.
فمتى ندرك تلك القيمة الغالية، ونكف عن إهدارها (وهي لا تنفد) كما أهدرنا الثروات التي تنفد ولا تعود أبداً، ومتى نعرف وزن الوقت وأهميته في نهوض الأمم والش عوب لنجعل منه عنصراً للإقلاع بعد أن صرنا بدونه صفراً على شمال الأمم؟
الوقت يمضي سريعاً لكنه يأكل الأعمار كما تأكل النار الهشيم، فلنلتفت إلى هذه الثروة القيمة ونستثمرها قبل أن تصبح أعمارنا كلها ماضياً، وليس بها متسع للمستقبل ووقتها سيكون ندمنا وحسرتنا كحسرة من عبر النهر وهو مستمتع بجماله دون أن يشرب أو يتزود منه بماء ولم يفطن لذلك، إلا بعد أن يحاصره العطش في قلب الصحراء وبينه وبين الماء الموت الزؤام، فهل نرتشف ونتزود من نهر العمر وربيع الحياة (الوقت) قبل أن نتوغل في صحرائه وخريفه؟ فإن السويعات والدقائق تنسحب من تحت إقدامنا ولا تعود إلى يوم القيامة.. فلنغتنم هذا الكنز فهو أساس النجاح وسر التقدم.
shunkul60@hotmail.com