ما يميِّز الحراك الاقتصادي في بلادنا، التوجُّه الرائع لتنشيط قوى عناصر السوق لإنتاج السلع والخدمات واستهلاك القدر المناسب منها وتصدير الباقي، ولاشك أنّ هذا التوجُّه سيمكِّن الحكومة من التفرُّغ للتنظيم والحماية، مما ينعكس إيجاباً على الموقف التكاملي بين القطاعين العام والخاص لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.
هذا الاتجاه الإستراتيجي الذي نجح في عدّة قطاعات مثل الكهرباء والاتصالات والمال وصناعة البتروكيماويات، والذي أخذ في طريقه للنجاح في القطاع العقاري وقطاع النقل لا زال بظني يسير دون المعدّل المطلوب لاعتبارات عديدة، ومن أهمها الخوف من فقدان المكتسبات خصوصاً بعد أن اعتاد أفراد المجتمع عموماً ومجتمع الأعمال على وجه الخصوص الرعوية الحكومية التي جعلت من القائمين على الجهات الحكومية المنظمة والمقدمة للخدمات في آن واحد، يرفعون عصا السلطة في وجه رجال الأعمال، كما جعلت رجال الأعمال يبحثون عن حضن الحكومة الدافئ ليقيهم شرور المنافسة ومخاطرها من خلال أنظمة الحماية والدعم والتفضيل، وجعلت أفراد المجتمع الذين يزدادون بمعدل نصف مليون كل سنة، يطالبون الأجهزة الخدمية الحكومية بتوفير كافة الخدمات الأساسية (تعليم، علاج، إسكان)، إضافة للوظائف والرواتب المجزية.
الهيئات الحكومية المنظمة، و هي ليست هيئات مطوّرة أو مموّلة أو مشغلة - كما هو حال الوزارات - أسست لتنظيم الأسواق وحمايتها من التلاعب والغش والتجاوز، إضافة إلى تحفيز قوى عناصر تلك الأسواق من خلال تيسير أعمالها، لتقوم بالدور المنتظر منها في إنتاج السلع والخدمات بكميات كبيرة ومناسبة لكافة فئات أفراد المجتمع مهما كان دخلهم.
ودون أدنى شك فإنّ تفعيل تلك القوى لا يمكن أن يكون بقرارات تسلّطية منفردة من قِبل تلك الهيئات المنظمة للأسواق بعيداً عن أخذ رأي عناصرها، حيث يجب أن تكون قرارات تشاورية مشتركة بين عناصر قوى السوق والقائمين على تلك الهيئات المنظمة، مع الاحتكام إلى الدراسات والبحوث التحليلية والتشخيصية العميقة القادرة على رسم الصورة بشكل واضح، بما يمكن الجميع من اتخاذ قرارات عالية الجودة أقرب للصواب منها للخطأ، قرارات مرنة تتناسب والمعطيات ويمكن تغيرها حال تغير تلك المعطيات على اعتبار أنها وسيلة لا هدف بذاتها.
وهو ما يعني أننا نشد علاقة إيجابية بين الهيئات الحكومية المنظمة وعناصر قوى السوق الذي تنظمه لتحقيق المصلحة العليا للبلاد والعباد، أي أنّ العلاقة علاقة شراكة لا علاقة طرفي قضية، أحدهم يتسلّط على الآخر بقوة القانون فيفرض ما يشاء، وعلى الآخر السماع والانصياع، وكلنا نعلم أن المستثمرين اليوم في أي قطاع، سواء كانوا مموّلين أو مطوّرين أو مشغلّين، يستطيعون شد رحالهم للاستثمار في أسواق أو دول أخرى تطغى فيها لغة المميّزات على لغة الضوابط والشروط، ولغة التشاور والتفاهم على لغة عصى النظام واللوائح والإجراء.
ولاشك أنّ هيئة السوق المالية، بعد أن استلم قيادتها الدكتور عبد الرحمن التويجري، تعتبر مثلاً جيداً للهيئات المنظمة التي ترى في التشاور سبيلاً لتنشيط عناصر قوى السوق المالية، حيث بتنا نرى تعاوناً ملحوظاً بين الهيئة وبين العاملين في القطاع المالي والمتأثرين به، لما فيه مصلحة السوق المالية، والقطاعات الراغبة بتمويل أنشطتها من خلال تلك السوق المالية العملاقة القادرة على تمويل القطاعات الاقتصادية بمليارات الريالات، وكلنا ثقة بأنّ الهيئات السابقة والوليدة كهيئة الغذاء والدواء وهيئة الإسكان، على سبيل المثال لا الحصر، ستنتهج نفس النهج من أجل اقتصاد قوي ومتين.
ومن أجل إيجاد وترسيخ علاقة إيجابية قائمة على الود والوئام بين الهيئات المنظمة وعناصر أسواقها، فإنّي أعتقد بأن تفعيل دور الأنشطة الفكرية، مثل ورش العمل والمنتديات والملتقيات وحلقات النقاش والمؤتمرات، أصبح ضرورياً وملحاً، على اعتبار أنّ تلك الأنشطة تعتبر من أهم الآليات التي تمكن الطرفين ( الهيئات المنظمة وعناصر السوق أيّاً كانت ) من بناء ثقافة مشتركة حيال قضايا ومشاكل السوق بهدف تنميته، ليلعب دوره المنتظر في الاقتصاد الوطني، وأعتقد بأنّه حان الوقت أن تقوم الهيئات المنظمة بتنظيم العديد من هذه الأنشطة لترى الأمور كما هي لا كما تحب، لتستطيع بناء قرارات سليمة وفاعلة تنهض بعناصر السوق وقواه، فالهيئات لم توجد من أجل التنظيم والحماية لذاتها، بل وُجدت للتيسير المحفز والمنشط للسوق الذي تنظمه لينمو وليتوسع في تقديم السلع والخدمات المطلوبة، بما يحقق التوازن بين المعروض والمطلوب بشكل مستدام.وأعتقد بأنّ من أهم المهام التي يجب على الهيئات المنظمة القيام بها وبسرعة كبيرة، حث الجهات الحكومية المرخصة للأنشطة الاقتصادية أيّاً كان نوعها، بتقليص الإجراءات إلى أقل وقت ممكن من خلال الدمج والحذف وتوحيد جهات التراخيص في عمليات مشتركة، فلقد سئم رجال الأعمال طول الإجراءات وعدم وضوح متطلّبات إنهائها حيث تهدر الأوقات التي تشكِّل بالنسبة لهم مالاً، كما تهدر الجهود والأموال أيضاً في سبيل اجتياز إجراء روتيني بسيط يقوم عليه موظف حكومي بسيط، لكنه يشكِّل كتلة من العقد النفسية، واسألوا من شئتم من رجال الأعمال ليروي لكم روايات تصلح لتأليف كتاب من الطرائف التي لا تنقضي والمثيرة للسخرية والشفقة في آن واحد.فهل نرى الهيئات المنظمة السابقة والمستحدثة والقادمة، تلعب دور الميسِّر المحفّز لرجال الأعمال للاستثمار في الأسواق التي تشرف على تنظيمها وتطويرها؟ وهل نراها تتعاون مع كبار العاملين في تلك الأسواق بما يساهم في بناء أنظمة وإجراءات محفزة بما يفعل قوى السوق لتوفير السلع والخدمات بشكل مستدام ؟ .. هذا ما أرجوه.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب 7842 ثم أرسلها إلى الكود 82244
alakil@hotmail.com