Al Jazirah NewsPaper Tuesday  18/03/2008 G Issue 12955
الثلاثاء 10 ربيع الأول 1429   العدد  12955

حسن علي الزاير

 

في الستينيات الميلادية كنا على موعد مع الشباب، نسمع ونقرأ عن الحب ونسامر الموسيقى وتشدنا قصص العشق وهموم الرواية.

كان ذلك الأفق الذي ينسينا ما يدور في الدنيا من كثافة المأساة وهرولة البؤس وتشعب الهموم. رافقنا الحب والعشق في الكلمة والقصيدة، وكنا أيضاً على موعد مع الهموم والهزيمة ساعات كثيرة.

إذا ذكرنا عبدالله الجشي رددنا ما كتبت عنه الدكتورة (بنت الشاطئ) في كتابها (أرض المعجزات), وعن زيارتها لمدينة القطيف عام 1951م. الجشي ترجم حبه للوطن بصورة عميقة كما اختصر ذلك في آخر القصيدة:

هذه بلادي في قديم عهودها

علم وفن خالد لا يدثر

واليوم يدفعها الطموح لنهضة

بمثيلها تسمو الشعوب وتكبر

لفترة طويلة كنا نردد هذه القصيدة تعبيراً عن عشقنا للوطن ووفائنا لتربة الأديان وبزوغ الحضارات.

ومع مرور الزمن اتضح لي أن حب الوطن يسير في أجمل عطاياه.

هو أكثر من عشق التاريخ واستلهام للحضارات، وإنما هو حركة نفسية تمثل انسجام الإنسان وتماسكه وفاءً للأرض. الوطن لديه في أكثر من مكان هو مجموع الحضارات الإنسانية، وهو دليل على استمرارية العطاء بين البشرية.

تحول الوطن عند الشاعر الجشي الى ظاهرة إنسانية تجمع بلدنا الحبيب وباقي بقاع الأرض. الوطن له أكبر من مجرد مدينة على ضفاف الخليج العربي، إنما هو كل العطاء والحب في أرجاء الجزيرة العربية، على ضفاف الخليج وفي عمق اليمامة ويثرب وباقي أرجاء البلاد. هو شعور وسلوك وهو أرض وعطاء، وهو مواطن يعمل ويفهم معنى العطاء.

يذكر حب الوطن في الأدب العالمي، هذا يتغنى بالرافدين، وذاك يرصد عرس النيل وأرض مصر، وذلك تحدوه الوطنية أن يكتب في مدينة في أوربا أو أمريكا أو الصين واليابان، وهم في كل ذلك عشاق لما يؤمنون به حب المواقع التي عاشوا فيها وعشيرة شاركوا في أفراحها وأحزانها أو حروب انتصروا فيها على الأعداء. عشقهم هو عشق محدود وضيق، أما عشق الجشي للأرض فهو عشق للنجاح في كل تجارب الإنسان.

لكي نثبت هذه الظاهرة في شعر الجشي نحتاج الى الكثير من التفصيل، ولكن باختصار شديد دعنا نقف على بعض قصائده التي تثبت هذه الظاهرة (العالمية في حب الوطن في أي مكان).

قصيدته في تأبين العلامة حمد الجاسر

لكنها الأرض التي قد بوركت

بالأنبياء وأمة تتوثب

فتحت على النور العظيم نوافذاً

كانت بأطياف السلام ترحب

هذه ترجمة لمعنى الأرض الواسع وعطاء الإنسان في نظر الجشي وليس المدينة الوحيدة التي يتغنى بها شعراء الشرق والغرب.

في قصيدة بين اليمامتين التي كتبت طلباً من ابنته (يمامة) يقول:

طوفي (يمامة) بالجزيرة حلوة الأنغام نشوى

إن اليمامة موطن لك قبل (دارين) و(صفوى)

لا يجد حكاية الى ابنته إلا حب الوطن ولا يكون ذلك الحب إلا بتماسك بين كل المناطق وكل أبناء الوطن الواحد.

ويأخذ الحب للوطن شاعرنا الى أرض العراق فيخاطب شاعراً في مستواه

قدست مهد النابغين صعيدا

وسموت مجداً طارفاً وتليدا

يا شاعر النهرين حسبك أنها

كبد عز من الحياة وجودا

في هذه القصيدة أراد الجشي أن يبارك المبدعين. والإبداع ضرب من العشق للوطن. هو المكان الذي يعتز به ويحلم ويبارك الآخرين منه. الوطن هنا هو نجاح وإبداع الإنسانية.

والوطن عند الجشي هو الذكرى والألم والتفاعل للأحداث الإنسانية.

ذكرتني يأسها ذكرُ

لم يبق لي دمع فيعتصر

في قرن هلّ (اندلس)

ينعي لنا استشهادها القدر

أوهل نسينا (القدس) أم خملت

منا المشاعر فهي تنتحر

ويظل عشق الجشي وحنينه متواصلاً للوطن في قصيدة (جبل التوباز).

جبل التوباز كم من قبلة

ألهبت فيك غراماً ورعا

جبل التوباز ما كان الهوى

غير فيض من رحيق اترعا

و(دارين) على شاطئ الخليج العربي امتداد لحب الجشي للأرض وتجربة الإنسان.

على الربوات الفيح من قرج (دارين)

نثرت اماليلي، وفتقت نسريني

ويعود بعد سنين من الغربة وألم الفراق، الى عشقه الذي يخلد فيه ويمتزج في ترابه.

وقبلت خديك لا الفرقدان

ولا الشمس مثلهما والقمر

بلادي يا حلم العاشقين

ومهد الحنان ونادي السمر

بلادي يا توأمي في الوجود

ويا فرحي الزاهر المستمر

ولا يزال عشق الوطن يتجزر في كل نادي أو محفل يضمه الشاعر الجشي, ولا مدينة أو قارة ذهب إليها إلا وكان الوطن له سميراً ونديماً. نجد أن ديوانه ( ذاكرة عابر) يحتوي علي سبع عشرة قصيدة يصف فيها مناطق مختلفة من العالم من آسيا وأوربا وكل مضامين هذه القصائد تدور حول محور الوطن وتجربة الإنسان. هذا المسار لوحده يحتاج الى دراسة مفصلة.

المقال سريع ولكن يشير الى فرضية علمية وأدبية قابلة للبحث بأن الوطن يمثل المنهج الفني والإبداعي لشاعرنا الجشي. ولو تتبعنا ذلك بالدراسة والمراجع لوجدنا الوطن هو تعبير عن استمرارية العطاء واحترام التجارب الإنسانية.

بلادي يا توأمي في الوجود

ويا فرحي الزاهر المستمر

توهج حبك مثل الشموس

بأعماق قلبي منذ الصغر

لقد ودع الجشي الوطن الذي تفانى في عشقه. عاتبه حيناً وابتسم له أحياناً كثيرة. ذهب بعد حصوله على جائزة الوطن للإبداع، بعد أن ترك لنا الكثير، وعلمنا المعني الواسع والأمين لحب الوطن.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد