Al Jazirah NewsPaper Tuesday  18/03/2008 G Issue 12955
الثلاثاء 10 ربيع الأول 1429   العدد  12955

شاعر الحلم العربي يكاشف «الجزيرة»
سليمان العيسى: لم أُخْلَق لهذه القرية..!
الجزء الأول

 

حوار - محمد بن عبد العزيز الفيصل

صوتٌ عروبيٌّ صادقٌ وحاذقٌ صرخ قبل أكثر من ثمانين عاماً بالنعيرية فبزغ من بين بساتين العاصي.. صوت عروبي لا يزال يعلو ويعلو مستنهضاً الأمة العربية وباعثاً فيها الأمل الكبير والعظيم.. رغم كل الهزائم.. على الرغم من كل الانتكاسات.. رغماً عن التشاؤم ما زال يحلم ويحلم.. بالحلم الخالد الثابت، حلم بالانتصار بالوحدة بالتماسك بالسمو بالخروج من القاع إلى القمة.. حلم لا يزال وسيزال يداعب خيال الكبير سليمان العيسى حتى يتحقق أو يحققه بعزمه.

شاعر الصدق والنبل والوفاء والحرية.. شاعر العروبة الأول والثاني.. شاعر الحلم العربي الذي أهدى لكل فرد عربي روح الهمة العالية الشامخة في أبياته الشاعرية التي يتنفس بها صباح مساء.

تتشرف (مسيرة) في هذا الأسبوع بلقاء خاص مع الشاعر والأديب سليمان العيسى، الذي سيكشف من خلاله عن محطات طفولته وصباه وسيرته الحافلة بالكثير والكثير مما سيكشفه في هذا الحوار.

* تتلمذتم في كنف والدكم الشيخ أحمد بالكُتّاب فحفظتم القرآن الكريم، وشعر المعلقات، ومن ثَمّ التحقتم بالمدرسة الابتدائية بمدينة أنطاكية.. حدِّثنا عن تلك البدايات كيف كانت؟

- طفولتي كانت المحطة الأولى واللبنة الأساس؛ فحياتي كلها بُنيت عليها. وُلدت في قرية صغيرة شمال سوريا اسمها النعيرية، وبالتحديد في حارة بساتين العاصي، وسميت بهذا الاسم؛ لأن نهر العاصي كان يمر من بين هذه البساتين، وكان منزلنا على ضفافه. وأنا أحب هذه التسمية وأتغنى بها كثيراً في مواضع عدة من أشعاري.. علماً بأن البيوت في هذه الحارة لا تتجاوز العشرين بيتاً.

ترعرعت في منزل بُنِيَ سقفه من القرميد الأحمر، وما زلت أتذكره جيداً، وكنت أسميه بيت القرميد، وهذا البيت كان مناراً للعلم؛ ففيه كان يتعلَّم الأطفال، فوالدي - رحمه الله - الشيخ أحمد كان مُعلِّم القرية، وفلاحاً يعشق الأرض ويحرثها ليكسب رزقه ولقمة عيشه، ومع هذا العمل الشاق أتاح والدي لنفسه أن يتعلم شيئاً من المعرفة وأن يعلمها لغيره، فكان يجمع أطفال القرية ويعلمهم القرآن الكريم، في منزلنا (الكُتّاب)، الذي يسميه (المكتب)، وأنا أفضل هذه التسمية.

وبيتنا مكوَّن من طابقين، الطابق الأرضي مخصص للأطفال الذين يُعلمهم، أما الطابق العلوي فكان لسكنى الأسرة.

ففي هذا (المكتب) تلقيت دراستي الأولى، وحفظتُ القرآن الكريم وأنا في السادسة من عمري، وحفظت الشعر العربي؛ فوالدي كان شاعراً.

قصائد

* هل تذكرون أوائل القصائد التي حفظتموها في طفولتكم؟

- أول ما حفظت من القصائد هو شعر المعلقات وديوان المتنبي وجمهرة أشعار العرب الذي كان رفيقي، ومكتبة الوالد كانت عبارة عن صندوق خشبي صغير مليء بالكتب، وهذا الصندوق كان مرجعي الأول؛ فكلما انتهيت من قراءة كتاب بحثت عن كتاب آخر وشرعت أقرأ فيه، مما زاد ثقافتي واطلاعي.

كانت طفولتي مزيجاً بين طلب العلم والسعي وراءه وحياة الطفل العادي الذي يتسلّق الأشجار ويقطف العنب ويصطاد السمك من نهر العاصي، فهي حياة ريفية بكل معنى الكلمة. وكما ذكرت آنفاً كنت أحفظ الأشعار وأقرأ الكتب وأنهل من العلم، فكانت طفولتي ممزوجة بين هذين الجانبين.

وقد فطنت زوجتي د. ملكة أبيض إلى هذه الحياة الريفية المليئة بالطبيعة، فكتبت مقالاً بعنوان (الطبيعة في حياة سليمان العيسى وفي شعره)، وسبب ذلك الاهتمام أن نشأتي الأولى كانت في البيت الريفي. ومما علق في ذاكرتي منها أنه كان أمام بيتنا شجرة توت ضخمة هي رفيقة طفولتي، وتحتها كتبت أولى قصائدي، وكنت حينها في التاسعة من عمري، ومعي ديوان صغير يحتوي على أربعين قصيدة كتبتها بخط يدي، وكان خطي جميلاً؛ فوالدي علمني الخط، بقلم القصب وكان يكتب لنا بيتاً على رأس الصفحة ويكلفنا بأن نقلِّد خطه على الصفحة كلها، فبفضله أتقنا الخط بشكل جيد.

وفي هذا الديوان الصغير الذي كتبته بخط يدي، وضعت فيه هموم الفلاحين بالقرية وما يعانونه من مشقة لكسب رزقهم، إلى جانب عدد من القصائد العاطفية أناجي فيها القمر والنجوم والشجر.

ثقافة الطفولة

* هل كانت لديكم خلفية عن التاريخ العربي والإسلامي في ذلك الحين أم أن ثقافة الطفولة كانت تقتصر على الشعر فقط؟

- لا، لم تكن ثقافة الطفولة مقتصرة على الشعر؛ بل كنت أقرأ عن الفاتحين العرب وفي التاريخ العربي والإسلامي؛ فكان صندوق الوالد الخشبي يزخر بالكثير من كتب التاريخ إلى جانب كتب الشعر واللغة والأدب، فالتاريخ العربي كان يعيش معي منذ طفولتي، فكنت أعرفه بالتفصيل.

سعة اطلاع

* مع سعة هذا الاطلاع في زمن كان فيه الكتاب نادر الوجود، ما هي أبرز الأسماء التاريخية التي خطفت إعجاب سليمان العيسى؟

- أحببت الكثير من الأسماء التاريخية اللامعة وأعجبت بها مثل: خالد بن الوليد، وعقبة بن نافع.. وغيرهما كثير، وقد كتبت حكاية طفولتي بعد ذلك، وهي بعنوان (وائل يتحدث عن وطنه الكبير)، ففتحت عيني على حلم كبير لا أزال أحتفظ به وأعيشه حتى الساعة (الحلم العربي)، فكنت أشعر وأنا طفل بأنني لم أخلق لهذه القرية التي ولدت فيها (النعيرية) أو لحارة (بساتين العاصي)؛ بل خُلقت لوطن أكبر وأوسع بكثير اسمه الوطن العربي، فكنت أحلم منذ طفولتي بوطن عربي كبير كله لي.. هو حضارتي، هو تاريخي، هو أمجادي.. فالفكرة العربية وجدت معي منذ طفولتي متأثراً بما قرأت من كتب التاريخ، ودواوين الشعراء القدماء التي حفظتها وأنا صغير، فديوان المتنبي - مثلاً - لا أزال أذكر معظم قصائده.

تثقف

* هل نستطيع القول إن سليمان العيسى أُتيحت له في صغره فرصة للتعلم والتثقف لم تتح لأبناء جيله أو على الأقل لأبناء قريته التي كان يعيش فيها؟

- نعم؛ فأنا تربيت تربية خاصة جداً؛ فالوالد - رحمه الله - كان يعرف أنني مؤهل لخلافته في المكتب، وكان ذلك هو حلمه، فشرع في تعليمي اللغة والأدب وحفَّظني القرآن الكريم، وكان يهتم بي أكثر من غيري لهذا السبب.

وفي القرية كنت أحلم بأن أذهب إلى المدرسة وأوسِّع ثقافتي، وأن أتعلم تعليماً عالياً، وكل هذه الأمور لم يكن والدي يعرفها؛ لأنه ابن ريف فأفقه محدود، إلا أن ثقافته العربية عالية.

أول قصيدة

* أستاذنا، هل يمكن أن تنشد لنا أول قصيدة ألقيتموها؟

- في الحقيقة أنا لا أتذكرها، ولكنني سأنشد لك أبياتاً منها، وقد قلتها عن الفلاحين في قريتنا:

ألا يا أيها الفقراء موتوا

لكم في جنة الفردوس قوتُ

لقد بُنيت لكم ثَمّ البيوتُ

وكوثركم بها يجري شهيّاً

فعلى صغر سني إلا أن ثقافتي الدينية كانت قوية وجيدة؛ فقد حفظت القرآن الكريم في السادسة من عمري، فلغة القرآن هي أستاذي الأول، وأنا أحفظ معظم آيات القرآن حتى الآن، فعندما يقرأ مقرئ فإنني أستطيع أن أكمل الآية قبل أن يكملها.

الحلم العربي

* هل ما زال سليمان العيسى يحلم بالحلم العربي الذي كان يراوده منذ سنين أم أن هذا الحلم تغيَّر وتبدّل بحكم الأوضاع العربية الراهنة التي لا تسير إلا للأسوأ؟

- لم يتغيّر شيء منذ طفولتي حتى الآن؛ فالحلم هو الحلم؛ فأنا أحلم إلى الآن بأمة عربية قوية، وبوطن عربي كبير مُتحد، وهذه الأمة ستجتمع يوماً ما، وستكون لها كلمتها، وستعود إليها الحياة والسيادة أيضاً كما كانت، وستساهم في صنع الإنسانية كما ساهمت عبر التاريخ.. هذا الحلم بدأ معي منذ طفولتي ولا أزال أعيشه حرفاً حرفاً حتى الساعة؛ فلم يتغيّر شيء أبداً.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد