تطوى الجريدة بكل ما فيها بمجرد نهاية اليوم، على الرغم من الجهد المبذول في إعدادها، إلا أنها تصبح تاريخاً بمجرد توزيعها على القُراء، بينما يقبع الكتاب على أرفف المكتبات، ويحرص القُراء على إبقائه
***
أسيراً لديهم فترة طويلة تمتد إلى حد التوريث من جيل إلى آخر تبعاً لأهمية الكتاب المقتنى.
وكان في الماضي للكاتب تأثير قوي على مجتمعه بصورة عامة، مشكلاً وجدانهم، وموجهاً مشاعرهم الوجهة المتفق عليها ثقافوياً بين جموع الأدباء، التي تتطلبها المرحلة على اعتبار أنهم ضمير الشعوب، والجميع كان يضع الشاعر مثلاً أو الكاتب في مكانة الأنبياء الذين يتنبأون بالمستقبل ثقافوياً، راسمين الطريق المنير لمن يأتي بعدهم.
وكانت كبرى الصحف العربية (الأهرام المصرية مثلاً) تنشر شعر أحمد شوقي على الصفحة الأولى لأهمية الشاعر وكلماته واتساع جمهوره؛ فكان الأديب بحق مرآة مجتمعه التي تنعكس عليها كل الظروف المحيطة إلى أن ظهرت علوم تناقش ارتباط المجتمع بالأدب أو (سوسيولوجيا الأدب)؛ فكانت هناك علاقة وثيقة الصلة بين الكاتب والمجتمع، ودراسات كثيرة جداً تصب في هذه العلاقة المترابطة بين الأدب والمجتمع، أو الأدب والعالم.
ظلت هذه الهالة التي بلغت حد القداسة محيطة بالكاتب إلى أن ظهرت شبكة الإنترنت وانتشرت بالصورة التي عليها الآن، وظهرت طبقة جديدة من الكُتّاب على الإنترنت، أو حسب التسمية الأحدث (الكُتّاب الرقميين)؛ لأن نتاجهم غير ورقي.
شكلت هذه الطبقة الجديدة مجموعة تكتب وتقرأ لنفسها، إلى أن انتشرت بشكل أعتقد أنه لم يثرِ المشهد الأدبي بالقدر الذي أضرّ به؛ فكل المواقع الإلكترونية التي تضع خانة (أضف مقالاً) تنشر كل المرسل إليها، والدليل هذا الكم من الغث الذي نراه على صفحات المواقع الإلكترونية.
المجموعات التي لا تقدر على الانصهار في مجتمعها تخلق لنفسها عالماً خاصاً بلغة مخصوصة، وهذا ما حدث مع الإنترنت، مجموعة من الكُتّاب رُفضت ورقياً فلجأت إلى الإنترنت التي تنشر كل شيء، يرفعون من قيمة أحدهم بالاتفاق المسبق، ويسبون آخر باتفاق مسبق أيضاً، وكل هذه العملية تتم فيما بينهم، نقاد لا يملكون أدواتهم يوجهون سهام النقد الجارح إلى كُتّاب حقيقيين، وإمعاناً في التطوير التقني ظهرت المدونات الإلكترونية المنتشرة بصورة مرعبة الآن، ملايين المدونات التي ينشئها أصحابها واضعين عليها سيرتهم الذاتية، وبعض الأعمال التي يقيِّمها صاحب المدونة ذاته، بل وقد يضع تعليقات على ما كتب بنفسه محاولاً إيهام نفسه بأنه صاحب مقروئية عالية.
مدونات تهاجم الحكومات، وأخرى تصوت للأولى وتشجعها، وثالثة أدبية، ورابعة اجتماعية، وخامسة جنسية، وهكذا ينعق الناعقون بما يتقيؤونه من تفاهات لا ترقى إلى وصف الأدب.
هذه الطبقة الجديدة من الكُتّاب الإنترنتيين أصحاب المدونات كان لهم الفضل الرئيس في نزع الاحترام عن الكاتب الذي كانت صورته المتخيلة كشمعة تحترق من أجل إضاءة الطريق للآخرين، كما أنهم يشتغلون بالثقافة الانعزالية، وغالباً ما تكون تحت أسماء مستعارة.
الكتابة المجانية على صفحات الإنترنت متاحة للجميع، والمدونات التي تمجّد وتقدّس مَن تشاء، وتسبّ وتمحو مَن تشاء متاحة للجميع، مِن دون أي ضابط، بدءاً بضابط اللغة المنعدم، ووصولاً إلى ضابط الأخلاق النسبي.
وأخيراً، لا يستطيع إلا جاهل أو أحمق أيضاً إنكار أن بين كل هذا الركام (الرقمي) تبقى أعمال تحاول جاهدة أن تثبت نفسها، ولو افتراضياً، وتسجل فعلاً نسبة مقروئية مرتفعة، ولكن هذا لا يتم إلا في المواقع التي تحترم نفسها وقارئها، فلا تبث إلا كل ما هو جدير بالقراءة.
ولا ينكر إلا جاهل أو أحمق أيضاً أن الأحكام التعميمية غير واعية، ولا تستند إلى دراسة عقلانية مستفيضة تقوّم بشكل إيجابي كل النتاج، حتى ولو كان معوجاً.
aboelseba2@yahoo.com