يتساوى بكاء طفل على سرقة سلحفاته الصغيرة من حديقتها وبكاء قيس على اختطاف ليلاه في ليلة مظلمة لم تكن ليلة القبض على ليلى وحدها بل كانت ليلة القبض على الإنسانية جمعاء، ولا فرق بينهما في الشعور والحرمان ومرارة الفقد لأن البكاء هو البكاء وليس هناك دموع أقل
ملوحة ومرارة من دموع أخرى، ويتساوى أيضاً في الذنب من ينزع وردة مثل (ملكة الليل) بلا مسوغ اخترقت الصخور لتستقر في مكان يليق بها بنيرون وهو يراقب نزع روح روما واحتضارها وهي تحترق ليؤلف مقطوعة موسيقية تثبت أن الخطايا هي الخطايا مهما اختلفت وتعددت مشاربها وأن الليل أصبح مخيفاً بلا ملكته.. حاولت تفاؤلاً أن أرى نصف الزجاجة مملوءاً ونصف الغرفة مضاء، وتساءلت عن سر حكاية أنصاف الغرف المظلمة في العبارة الأخيرة وهي عنوان قصة شهيرة لارنست همنجواي ذات يوم وأنا أجادل صاحبي عن سر الغروب الذي يقبض روحه ويراه نهاية وفناء بينما يراه آخرون استعداداً لإشراق جديد مملوء بالورود والفراشات، كنا متناقضين في صورة تشبه تناقض عنوان ارنست مع عنوانه الآخر غداً تشرق الشمس، ولكن ما القيمة وكل شيء حقيقي يعيش غربة بعد أن بلغت منظومات القيم أرذل العمر كي لا تعلم من بعد علم شيئاً وتم تفريغها من مضامينها وأصبحنا في واقع مزيف في جوانبه المختلفة يضحك حتى العائد للتو من جنازة أبيه أو شقيقه في ظل طغيان صوت الفوضى وضوضائها على صوت العقلاء الذين يراقبون بحذر تموج آخر ورقة توت في خريف يهدد الأوراق كلها بالسقوط وكأن هذا الكوكب على جناحي غراب زاجل، يطوف برسالته الأخيرة على امتداد المجرات ليبلغ المرسل إليهم بأن القيم في أزمة بعد بينونتها الكبرى..
كان لابد لغسان كنفاني الذي شهد أن الإنسان مصهور في خزانه الكبير أن يكتب روايته قلوب في الشمس احتجاجاً على انصهار ثلاثة فلطسينيين مهاجرين في خزان من صفيح حينما صهرتهم الحرارة هروباً من العراق إلى الكويت، ولقد أبدع في وصف احتضارهم وذوبانهم من شدة الحرارة في ذلك الصفيح على ظهر السيارة المنتظرة في مركز الحدود وقائد السيارة يستمتع بحديثه مع رجل الجمارك، صورة متكررة بكل تفاصيلها المؤلمة في الزمن الذي يقطعنا ولا نقطعه، وكأن الإنسان عصفورة في كف طفل يسومها ورود حياض الموت والطفل يلعب بحيث أصبحنا كما قال الشاعر الألماني رينر ريلكه: نموت قبل أن نتقن عادات الحياة التي تعلمناها.. فإرادة الحياة والإقبال عليها بكل هذا الشغف والعبث والإقصاء تجعل من الإنسان كلمة غير قابلة للفهم، وحق أن يكون العاقل أيضاً حزيناً، كما قال الشاعر مالارميه وهو في ذروة العافية: بعدما طردت البرغماتية كل مفهوم نبيل من مكانه الطبيعي وطوحت به في غياهب المجهول حتى تعذر التأقلم مع الواقع لأن مفاتيح أبوابه طلاها الصدأ فغرقت الأحلام الكبرى بعد التعجيز إلى إحباط لا فكاك منه في ماء آسن تعكره النفايات والطحالب الخضراء، وفعلت ما فعله الخنزير البري بذلك الفتى الأسطوري عندما اندلع الخصب والربيع من جراحه، تماماً كما فعل ذلك الطبيب الناكث بقسم أبو قراط بمريضه المسجى حينما تجاهله والمرض يتفاقم في جسد إنسان أسلمه أمره، وضيّع عليه فرصة العلاج.
صدقاً يشعر الإنسان سيزيف بخيبة لا مثيل لها بعدما وصل بصخرته إلى القمة فتدحرجت بقوة للأسفل وأصبح في هزيمته أشبه بالقديس كريستو الذي حفر أعواماً عدة في إحدى زوايا زنزانته الرطبة الضيقة ليجد نفسه في زنزانة أضيق مساحة وأشد رطوبة وأقل هواء، ولن ينفع ما اقترحه بعض العلماء على الإنسان المصاب بالشيزوفرينا أن يخرج إلى أعلى قمة ويضع أصبعيه في أذنيه ويصرخ من أقصى أعماقه كي يتخلص من رواسب نفسية علقت كالغبار والصدأ بقلبه وأعصابه لأن الخذلان يجري كالشيطان في شرايينه وأوردته والمؤلم أننا في القرن العشرين وما فيه من تقدم تكنولوجي وثورة اتصالات ثمة ما يذكرنا بالعصر الأردوفيشي والعصر الجليدي بديناصوراته في بواكير الحياة البشرية وإنسانها الحجري الذي يستر عورته بأوراق الشجر، ويخفي تفكيره بخوذة من خشب وكأنه كائن ما قبل اكتشاف البرونز، بل ما قبل الإنسانية كمفهوم وثقافة ومنظومة قيم.
كل ذلك يثبت أننا رغم كل ما وصلنا إليه لازالت دراما هابيل وقابيل تطاردنا باختصار إذ لا يمكن تصور في عصر حقوق الإنسان أن يقول ضابط لأحد جنوده بأنه أباد قرية برمتها كي يحميها من الثوار. ولا يقبل المنطق في أبسط صوره أن تسحق دبابة ما حافلة محملة بأطفال عراقيين دفاعاً عن الحرية. أرأيت سادية مرت على التاريخ رغم صفحاته المملوءة بالغزاة والقراصنة مثل ما يجري في عصرنا تحت ذرائع واهية وحجج مخرومة لذات تضخمت وتكرشت حتى عادت بلا رقبة كما قال مظفر النواب ذات خريف وهي في دكتاتوريتها أشبه بذات نابليون حينما نزع التاج من يد البابا ليضعه على رأسه ولم يفق من غطرسته إلا بصفعة من مثقف فرنسي يثبت له أن نصف التاريخ للكلمة ذات القيمة حتى قالها الشاعر أحمد شوقي في بيت من قصيدة مشهورة أدرك مضامينها الإنسانية بوليوس قيصر حينما تستبد ذاته في ضلوعه كان يوصي أحد أتباعه بأن يهمس في أذنه أن البشر فانون فلا يصم التصفيق أذنيك ويستخفك الطرب، في تلك الصورة المملوءة بالاستبداد والتصفيق والمكاء والتصدية لا يختلف نابليون ولا يوليوس عن تلك الجماهير في سقوط الأنسنة من نسقها الأخلاقي حول حلبة صراع الديكة، والكلاب، والثيران، والأكباش، يضحكون بملء أفواههم، ويجدون متعة في رؤية الضحايا مبحوحة الصوت والدماء تسيل من رؤوسها وتجهل تماماً هذا المكر الإنساني المخيف في تلك الحظيرة لينتهي المشهد بشحذ السكين وسلخ الجلد في صورة ربما لم تقتصر على الحيوان بل تجاوزته إلى إنسان يتصارع مع إنسان آخر في حلبة تجمعت حول حبالها وقيودها حكومات ومنظمات وجماهير خلف الفضائيات نسيت أننا مهزومون جميعاً وساقطون إنسانياً إذ لا منتصر حقيقي في تلك اللوحة التي تشبه لوحة جويا الشهيرة بطرفيها الممثلين في إنسان يتصارع مع إنسان آخر فيما تغوص أقدامهما في الدوامة التي تبتلعهما في النهاية وتبتلع معهما كل شعارات الحرية والمساواة والعدالة لأن الإنسان في حروبه التي لم يشهد التاريخ مثلها أصبح أشد ضراوة من حيوانات لا تدعي أنها صاحبة حضارات وألفيات، وقد أجبرها الإنسان المستبد على حروب استعراضية ليؤكد الواقع أن الأخلاق لا تتجزأ في صراع الحضارات الإنسانية إذ لا يمكن أن تصل نظرياته نهاية الإنسانية ولا تستحق بدائيته أن تختم التاريخ بهذه المراهقة، وصدقت الملائكة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}(30) سورة البقرة.. والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com