Al Jazirah NewsPaper Monday  17/03/2008 G Issue 12954
الأثنين 09 ربيع الأول 1429   العدد  12954

الشباب بين فتور الهمة وتقصير الأمة
سلامة بن هذال بن سعيدان

 

إن علو الهمة من أعظم الفضائل وأفضل المزايا التي ينبغي أن يتصف بها الشباب وتتوفر لهم، إذ إنها تمثل مصدراً للقوة، وتتمحور حولها أكثر الصفات الخلقية والقدرات التنفيذية، مؤثرة فيها ومتأثرة بها، وبفضل هذه الفضيلة، وما يرتبط بها من مؤثرات، وينبثق عنها من محفزات، يتولد في الشباب حب الاعتماد على النفس والعصامية، كما أنها تشكل أهم البواعث على التضحية، وأعظم الدوافع إلى قمم المعالي وذرى المجد، وقد قال الشاعر:

ما الجود عن كثرة الأموال والنشب

ولا المفاخر إرث عن أب فأب

لكنها همم أدت إلى سؤدد

وكل ذلك طبع غير مكتسب

فرب ذي حسب أودت صنايعه

به وقد شرفت وغدا بلا حسب

وإذا ما فترت الهمة لدى شباب الأمة، وبهت أوار الحماس فيهم، وخبت نار الإحساس عندهم، أصبح مستقبل هذه الأمة في مهب الريح وتعثرت تطلعاتها وخابت آمالها، بسبب تجاهل بعض شبابها لثوابت دينهم، وتحللهم عن قيم ومثل سلفهم، وابتعادهم عن ترسم خطى أولئك السلف، والنكوص عن جادته، وما يعنيه ذلك من نضوب ينابيع علو الهمة وجفاف الموارد التي تغذيها، وبالتالي يغلب على هذا النوع من الشباب الفتور ويضمحل نشاطهم ويفتر حماسهم وتنخفض معنوياتهم.

وإذا كانت الهمم العالية من صفات أولي العزم وأهل الشيم، فإنها في الوقت نفسه هي المؤشر الذي يدل على الصلاح والمدخل لكل نجاح، وبقدر ما يترتب عليها من مجد وتقود إليه من سعد، بقدر ما يصاحبها من هموم ويواكبها من اهتمام، وعلى الجانب المضاد فإن فتور الهمم يدعو إلى الخمول وضعف الاهتمام، وبالشكل الذي ينحو إلى تفضيل دواعي الراحة ومظاهر الدعة والاستكانة على الحيوية والحماس وروح التحدي، والشباب إذا لم تلهب حماسهم الهمم، ولم تحرك همومهم العقول، بحيث يقادون من خلال الأولى ويساقون من قبل الثانية فلا خير فيهم، ولله در القائل:

وقائلة خل الهموم ولا تقف

بوجه مجد أو بوجه مزاحم

فقلت إذا ضيعت همي وهمتي

فما الفرق ما بيني وبين البهائم؟

وبمجرد أن يركن شباب الأمة إلى حياة الترف والدعة، فإنه يسقط تدريجياً في وهدة الجمود وحب الراحة، مختاراً أنصاف الحلول، ومتبعاً أسهل الطرق وأيسر المسالك التي يدعو إليها فتور الهمة وضعف الاهتمام، وفي الوقت نفسه يبتعد هؤلاء الشباب عن الفضائل المتمثلة في التضحية والإقبال على العمل والتطلع إلى المعالي، وكل ما من شأنه النهوض بالأمة والرفع من مكانتها وحفظ كرامتها، وضمان استقرارها وازدهارها واستمرارها.

وفتور الهمة تتداعى له مثالب كثيرة، منها تبلد المشاعر ونقص الإحساس بالمسؤولية والقبول بالحد الأدنى من أداء الواجبات، وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد، بل تتحول هذه المثالب مع مرور الأيام وتكرار الاعتياد إلى نقائص يترتب عليها اهتزاز الولاء وتشتت الانتماء، ومن ثم استحكام عقدة الأثرة وضعف المواطنة وتغليب المصالح الذاتية على المصلحة العامة.

وكلما اقترنت الهمة بالعزيمة، وأمتطيت الثانية عن طريق الأولى، استطاع الشباب الظفر بالمطالب وتحقيق النجاح، وبمجرد أن تفتر الهمة، ويضعف تأثيرها فإن العزيمة عادة ما تبرد معها، ويقل مردودها إن لم يختف تماماً، كما أن الحماس لا وجود له بدون علو الهمة واستمرار وتيرة نبضها وتدفقها، حيث يزداد الحماس في تناسب طردي مع علو الهمة في حين أن قوة العزيمة تحملهما إلى الهدف، وقوة الحامل يستمدها من المحمول، على شكل حزم وعزم وحماس وإرادة، بحيث تتجدد عوامل الجذب والدفع بفضل تفاعل الغايات المرحلية فيما بينها حتى بلوغ الغاية النهائية، وكما قال الشاعر:

أمطتك همتك العزيمة فاركب

لا تلقين عصاك دون المطلب

ما بال ذي النظر الصحيح تقلبت

في عينه الدنيا ولم يتقلب

وفي غياب الهمم العالية يتوارى الطموح واستشراف المستقبل، ويختفي باختفاء ذلك مفهوم الثقة بالنفس والاعتداد بها والاعتماد عليها، وتوطينها على المبادرات وركوب المخاطر، مما يفسح المجال للانكفاء إلى الداخل وضيق الأفق والاتكالية والركون إلى الغير على النحو الذي يصعب في ظله تحديد المسؤوليات ومعرفة الحدود الفاصلة بين العمل الفردي والعمل الجماعي، ومن ثم تعمل الهمة الفاترة عملها وتتجسد ممارساتها على أرض الواقع، تضييعاً للوقت وإهداراً للجهد، بالصيغة التي يختفي معها السداد ويظهر الفساد.

ومن هذا المنطلق، فإن من علت همته طالت همومه، وجعلته دائماً يتطلع إلى الأمام، بغية إرضاء تطلعاته وإشباع أمله، محصناً نفسه ضد الممارسات المترتبة على قصور الهمة وفتورها، وشتان بين من هذا حاله وبين حال بعض الشباب الذين ينشغلون بأمور لا طائل من ورائها، ولا جدوى منها، كما ينصب اهتمامهم على مناشط ثانوية وهوايات دونية، لا يرجى منها فائدة، بل تؤدي إلى إهدار الجهد وقتل الوقت، بالإضافة إلى أنها تضر بالموروث الديني والأدبي والثقافي، فضلاً عن مالها من تأثيرات سلبية على الصورة الوطنية للشباب والأمة.

وهذه النوعية من النشاطات والهوايات التي يتهافت عليها بعض الشباب، ويغالون في التحمس لها، ومظاهر التشجيع نحوها، وما يمارسونه على هامش فعالياتها ومنافساتها من ممارسات مستهجنة، كلها تعتبر نتيجة طبيعية للتحلل من المسؤولية وخداع النفس والهروب من الواقع وفقدان الطموح، ولسان مقال أصحابها أن لكل فتى صبوة وأن من حقهم التنفيس عن معاناتهم وإشباع رغباتهم، أما لسان الحال فيعني فتور الهمة وضعف التربية وانعكاس إفرازات الفراغ ومفسدة الجدة أو مرارة الحاجة، ومثل هذه الاهتمامات الدونية والأفكار السطحية لا تليق بأصحلب الهمم العالية من الشباب الذين تعقد عليهم الأمة آمالها، وتنظر من خلالهم إلى واقع حالها، ومستقبل القادم من أجيالها، خاصة وأن هذه الأمة، وهي تنظر إلى شبابها من هذا المنظار، فإن نظرتها تكون دائماً مبنية على أملها فيهم وعاطفتها نحوهم وحرصها عليهم، الأمر الذي يجعلها تجد نفسها أمام الكثير من التحديات التي تفرضها تطلعاتها ويعكسها تشخيص حالتها، ووصف معاناتها من جانب، وموقف شبابها واهتماماتهم وطموحاتهم من جانب آخر.

والتقليد الأعمى وحمى الإقبال المتهالك على الأفكار المستوردة والعادات الدخيلة من الأمور التي تشكل خطورة بالغة على الشباب، وتجعلهم عرضة للانحرافات الفكرية والتبعية المعنوية، ما لم تتوفر لهم الحصانة الدينية والمناعة الوطنية، بفضل المحافظة على الدين والتمسك بالقيم، واحترام أصالة الأمة وتأكيد هويتها، وتعهد موروثها، بعيداً عن كل ما يشوه نقاء المعتقد وصفاء العقيدة، ويلحق الأذى بهيبة الوطن ويضر بمصالحه العليا، مع الأخذ في الاعتبار أن الاستفادة من علوم وتجارب وخبرات الأمم الأخرى، يعتبر مطلباً مرغوباً وأمراً مطلوباً، أما الإعجاب الفاسد والتأثر الكاسد، والانسياق خلف أبواق الدعاية ومصادر الغواية فهو سلوك مبغوض وأمر مرفوض.

والأمة بقدر ما تطالب شبابها بالتحلي بمكارم الأخلاق وامتلاك ناصية العلم والمعرفة، والتصميم والمثابرة نحو بلوغ الأهداف التي رسمتها لهم، مطالبة إياهم بتجسيد همم الشباب وإظهار التنافس الشريف بين الأتراب من أجل الحفاظ على المكتسبات ومواصلة الإنجازات، بقدر ما تبدي هذه الأمة تذمراً من حال هؤلاء الشباب، واصفة إياهم حيناً بالإتكالية ووهن العزم وضعف الحزم، وحيناً آخر بالركون إلى حياة الترف والعزوف عن التطلع إلى المعالي، بالشكل الذي بات يشعر معه الجميع بأن الخوف على المستقبل له ما يبرره، وأن الحياة جهاد دائم والنزاع والصدام من سماتها وشروط البقاء فيها.

وعلى الطرف الآخر فإن الشباب ينعت أمته بالتقصير نحوه، حيث يعاني من مشكلة الفراغ، وما ينجم عن ذلك من آثار سلبية، تلقي بظلالها على حياته، وقد تفرض عليه ظروف التقصير والأخطاء التي لم تعالجها أمته تلك النشاطات التي لا ترقى إلى مستوى تطلعاته ولا تنسجم مع ميوله، راضياً عن الوفاء باللفاء، كما أن المرافق المعدة لمزاولة الأنشطة وإشغال الفراغ تفتقر إلى التفعيل، وبعض الجهات المشرفة على هذه المرافق يغلب على تنظيمها ونظامها طابع الشكلية، وبرامجها وآلية العمل فيها، لا تخرج عن كونها صورية أكثر منها مفعلة.

وحيث إنه يقال: إن غبار العمل خير من زعفران البطالة، وأنه لا صغير مع الوظيفة والعمالة، ولا كبير مع الفراغ والبطالة، فإن البطالة هي العقبة الكأدا التي تقف في طريق الشباب، وتسبب لهم كماً من المتاعب، ويتداعى لها الكثير من المنغصات، ويتخذ البعض منها ذريعة لارتكاب الأخطاء والوقوع في المحظورات، كما أنها قد تكون مدخلاً للتحلل من القيود وتجاوز الحدود، الأمر الذي يستدعي من الأمة ممثلة في ولاة أمرها أن تعمل على إيجاد حل ناجع لهذه المشكلة المزمنة، وكفى بالبطالة سوءاً أنها تطعن في عدالة الأمة وتزرع بذور الحقد والكراهية في نفوس شريحة من المجتمع، وتجعل من السهل خداع ضحاياها ودغدغة مشاعرهم من خلال العزف على أوتارها، وذلك من قبل دعاة الشر، واستغلال هذه الفئة فيما لا تحمد عقباه.

ومن مظاهر تقصير الأمة تجاه شبابها نقص فاعلية التربية، وهذه التربية في أحد جوانبها قد تكون أولياتها مرة ولكن ثمارها لذيذة ونتائجها حلوة، وقد قيل: من أدب أولاده أساء حساده، كما أن التربية خير واق من شرور الخبثاء، وعلى نتائجها يتوقف نسبة كبيرة من تحديد الفروق الفردية بين الناس من حيث صقل المواهب ومعرفة درجة الصلاح وقابلية الاستفادة ومستوى التميز، وتعتمد الوطنية الصحيحة ويتوقف الانتماء السليم على فاعلية التربية وتماسك الأسر والكيانات الانتمائية وانصهارها ضمن كيان الأمة ودائرتها الانتمائية العامة. ويعتبر ضعف التعليم في مستواه الكيفي وليس الكمي من أوجه تقصير الأمة نحو شبابها، حيث يترتب على هذا التقصير تدني معدل التحصيل العلمي ونقص الرصيد المعرفي على النحو الذي يقود إلى محدودية الوعي لدى الشباب ويجعل قناعاتهم هشة، وثقتهم بأنفسهم مهزوزة، مما يؤثر بشكل سلبي على تفكيرهم ونظرتهم إلى الحياة، خاصة فيما يتعلق بقيم المواطنة والولاء والانتماء، وغيرها من القيم التي تبعث في الشباب روح التضحية، وتدفعهم إلى الإيمان بأن علم الخاصة لا يغني من علم العامة، بل قيمة الأول مرهونة بوجود الثاني. وإذا كان المثل خير معلم، وكيفما يكون الآباء في الغالب يكون الأبناء، وأن حياة الإنسان تتكلم بصوت أقوى من حديثه، والتعليم بالعمل أبلغ منه بالقول، فإن الشباب بمسيس الحاجة إلى القدوة وحسن الأسوة لأن المثال الصالح أحد مقومات التربية، وبفضل ما يجسده من مثل وقيم تتجه صوبه الأنظار لتقليده والسير على هديه بدافع الإعجاب والاقتداء. ووقاية الشباب من المؤثرات الفاسدة، وحمايتهم من المغريات السلبية، تعتبر من أهم مسؤوليات الأمة في هذا الزمن الذي تكثر فيه الفتن، ويختلط فيه الحابل بالنابل، حيث إن تحصين الشباب، وغرس المثل والقيم في نفوسهم، بما يؤهلهم للصمود في وجه تيارات الشر ومفسدات الفكر التي تروج لها وسائل الدعوة إلى الرذيلة، وتنقلها وسائط النقل الدخيلة، إذا لم تجعل الأمة ذلك على رأس قائمة الأولويات، فسوف تكون في يوم من الأيام مثل المنبت الذي لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، أو كمن ينتهي به المطاف وهو مثل قابض الريح لبعده عن المسار الصحيح والناتج المريح. وشحن همم الشباب والخروج من دائرة التقصير والقصور من الأمور التي تجعل الأمة تملك خيارها وتسيطر على مسارها، بحيث تحتل المكان الذي يمكنها دائماً من أخذ المبادرة ومواصلة المسيرة، مستلهمة أمجاد ماضيها، ومتعهدة إنجازات حاضرها، بما ينير لها الطريق نحو المستقبل ويخدم أجيالها القادمة.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد