الصراحة سلعة ثمينة، مفرداتها كالدرر النفيسة لكنها لغة صعبة غير مرغوبة لدى المتلقي، هناك من يراها قوام الحياة السليمة وأسلوب حضاري لإيجاد التفاهم وتعزيز الثقة، والبعض الآخر ينظر على أنها وسيلة لتتابع المزيد من التصادم والمشاحنات. وهذه كلها تصب في مدى ثقافة ووعي وأسلوب المتحدث والمتلقي.
حين تطرح قضية من هموم المجتمع في أحد المجالس، ويتبادل الناس الحوار والحديث حولها يتحدث الناس عن قضايا كبار، كالتآمر، والاتهام بالغش والخيانة، وتجفيف المنابع، وغيرها.. وأن هذه المسائل تحتاج لحلول جذرية ربما تضيق عنها جهود أمم ودول، فضلاً عن فئات محدودة من الناس، وتربط كل قضية تطرح أمام الناس بهذه القضايا الكبيرة، فأصبحت عادة في مجالسنا ما إن تجلس في مجلس ما حتى يبدؤون بالحديث عن قضايا كبيرة فيعلو الصوت ويحتد النقاش ويبدأ التذمر والاتهام والتشكيك، لكنه لا يخرج عن دائرة الهرج ولا يجلب سوى الصداع وأمراض الضغط والسكر.
وينتهي النقاش على أن هذه القضايا أكبر من جهد الأفراد وطاقتهم، ويقف الأمر عند هذا الحد، وحين تبحث عن جهود هؤلاء ودعوتهم لا ترى شيئاً يذكر، فتلاحظ أن هؤلاء المتحدثين ليس لهم أثر في محيطهم، ولا يدخل ضمن دائرة اهتمامهم. بل ليس لهم تأثير حتى في القطاع الذي يعملون فيه، وقد يكون ليس له تأثير حتى في بيته وأسرته.
وهذه القضية التي يتحدث عنها التربويون من خلال (دائرة الاهتمام) و(دائرة التأثير) وبغض النظر عن كون هذا المنطق من التفكير وسيلة لتبرير العجز والكسل، أو أنه نتاج اجتهاد واقتناع شخصي فالنتيجة العملية لذلك سيان.
وليست دعوة لتسطيح الاهتمام وقصر التفكير على المحيط الشخصي المحدود، فإنه ينبغي أن يربى الناس على الاهتمام في الميادين العملية التي يجيدون التأثير فيها، بغض النظر عنها، وعن مدى ضآلة حجمها بالنسبة لقضايا الأمة الكبيرة.
ينبغي أن يتربى الأفراد على حسن العمل وترك فضول الكلام والقيل والقال. عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حديث طويل: (إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال..) (رواه الإمام البخاري في صحيحه).
ينبغي أن يكون هم الإنسان أن يعمل، وأن يؤدي جهده في نطاقه ومحيطه، منطلقاً من قوله تبارك وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمَْ} وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.. وهي قاعدة شرعية عظيمة.
وأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم والصحابة الكرام كانوا يعيشون هم العمل، ويعنون بدرجة كبيرة به، دون أن يحلقوا في الخيال والتنظير، أو الإفراط في النظر للمشكلات وتضخيمها.
واقرأوا إن شئتم في سير النبلاء والعلماء من سلف هذه الأمة كيف استطاعوا أن يرتقوا بالأمة حتى وصلت إلى العصر الذهبي بالعلم والعمل. وحين يحقق المسلم هذا المعنى، ويقوم بهذه المهمة في محيطه، ينطلق بعد ذلك في التفكير فيما وراء هذا، والبحث عن وسائل تعينه على توسيع دائرة تأثيره. فلنحقق التوازن في هذا الميدان بين علو الاهتمامات، والنظرة البعيدة العميقة، وبين الميادين العملية.
نسال الله التوفيق والسداد في القول والعمل،،،،
* الجوف - سكاكا
fakhry@163.com