الدنيا مزرعة الآخرة، وهي ممر لحياة سرمدية دائمة، هذه الدنيا سمتها أنّها دار بلاء وابتلاء، ومصائب وأكدار .. يُبتلى فيها المرء بالسرّاء والضرّاء، والخير والشر، والغنى والفقر، والصحة والمرض. الدنيا ذات مظاهر زائفة! وصور برّاقة! ما أسرع ما ينكشف زيفها، ويزول بريقها .. هذه الدنيا غنيمة الإنسان فيها هو العمل الصالح، والذِّكر الحسن الذي خلّفه، والمتمثّل في المعاملة الحسنة والاتصاف بالأخلاق الفاضلة، ويؤكد ذلك شهادة الخلق على ذلك فهم شهداء الله في أرضه.
وكلُّ ما في هذه الدنيا من مصائب وأكدار، وأوجاع وأسقام، وهمّ وغمّ، وأتراح وأحزان، تزول بزوال هذه الدنيا وتوديعها، ثبت في الصحيح (أنّه يُؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة فيغمس في الجنة غمسة واحدة فيقال: يا عبد الله هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرّ بك بؤسٌ قط؟ فيقول لا يا رب لم أر بؤساً قط، ولم يمر بي بؤسٌ قط).
ما أجمل أن يغادر الإنسان هذه الدنيا وقد خلّف خلفه رصيداً من الثروة، لا ثروة المال والعقار! أو ثروة الذهب والفضة! ولكن الثروة الحقيقية، الثروة الأخروية التي تسجّل له يوم ملاقاة الله، رصيد يبقى في ميزان أعماله الصالحة حتى وهو في قبره، من الولد الصالح الذي خلفه والعلم الطيب الذي علمه والذِّكر الحسن الذي عرف به ... هذا هو رصيد العبد الباقي وما سواه يفنى ويزول ...
في يوم الأربعاء الموافق 20-2-1429هـ ودّعنا أستاذ العلم والتربية، صاحب الخلق والتواضع، الصابر المحتسب، ودّعه أبناؤه وأحبابه، وأصدقاؤه، وأقاربه وجيرانه، بقلوب حزينة وألسُن داعية له بالرحمة والمغفرة، ودّعت العم - عبد الرحمن بن عبد العزيز الفياض - الذي أعطت وفاته درساً في أثر الأخلاق والتعامل الحسن، وفي حب الآخرين والبذل لهم، وفي تحمُّل البلاء والصبر عليه، وفي الذِّكر الحسن {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، والذي عرف ببرِّه لوالديه والإحسان إليهما.
وُلِد العم الفياض في روضة سدير وتدرّج في تعليمه في مدينة الرياض الابتدائية والمتوسطة والمرحلة الثانوية، ثم التحق بكلية التربية وتخرّج منها متخصصاً في اللغة العربية وعلومها. وكان ممن زامله في الدراسة: د. عبد العزيز الفالح مدير مركز الإشراف التربوي بوزارة التربية والتعليم والأستاذ: يحيى بن عبد الرحمن اليحيى مدير مدارس الرابية الأهلية والأستاذ: رويس الرويس الأستاذ في عمادة البحث العلمي جامعة الملك سعود والعميد متقاعد عبد الواحد فايز العلي وزارة الدفاع والأستاذ عبد الله الدوسري المشرف التربوي والأستاذ عبد المحسن السويدان .. وغيرهم كثير ممن لم تحضرني أسماؤهم. ولقد التحق بسلك التدريس عام 1398هـ بدءاً بمتوسطة ابن خلدون في شارع الأعشى، ثم ثانوية العليا، واستمر فيها معلماً ومربياً لأجيال الأُمّة حتى أصيب بمرضه الأول عام 1413هـ، ورغم ما كان يعانيه في مرضه هذا من صعوبات وإرهاق، إلاّ إنّه استمر في تعليمه وتربيته صابراً محتسباً قرابة السبع سنوات، حتى أقعده مرضه الثاني الذي أصيب به قرابة عام 1420هـ ليترجّل فارس العلم والتربية عن جواد التعليم، ضارباً أروع الأمثلة في التضحية والمثابرة، والصبر والاحتساب، مخلفاً تركة وثروة لا تقدَّر بثمن من العلم الذي علمه، والتلاميذ الذين تتلمذوا على يديه ونهلوا من علمه وأخلاقه، والذين أصبحوا مصابيح خير في المجتمع ومنارات نور يستضاء بها. وإن كان عزاؤنا في أبي عبد العزيز كبيراً، إلاّ أنّ ما يُسلي عزاءنا تلك السيرة العطرة التي يلهج بها كل من ذكره وجالسه، والذرِّية الصالحة المستقيمة التي خلفها، ليبقى الرصيد في زيادة ونماء، ففي الحديث الصحيح: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاً من ثلاث، صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له). وأخيراً .. إن كان من كلمة فهي كلمة شكر ودعاء لأم عبد العزيز التي كانت مثالاً للزوجة الوفية الصابرة التي عاشت السرّاء والضرّاء واليسر والعسر، لتضرب أروع المثل لبنات حواء كيف تكون الحياة الزوجية وأنها صبرٌ ومصابرة، وأخذٌ وعطاء، فأسأل الله أن يُلهمك الصبر والسلوان، وأن يجزيك عن صبرك الجزاء الأوفر، وأن يُقر عينيك بصلاح ونفع ذرِّيتك، وأن يجمعك بأبي عبد العزيز في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ووالديك وذرِّيتك، وأمّا عبد العزيز وإخوانه فأقول اعلموا أنّ البرّ بوالدكم مستمر حتى بعد موته، وذلك (بالدعاء والاستغفار له، وإنفاذ عهده من بعده، وصلة الرحم التي لا توصل إلاّ به وإكرام صديقه) {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}.
Saad.alfayyadh@hotmail.com