يقتلع الملك عبدالله مفهوماً ظل راسخاً على مدى قرون في الذاكرة العربية السياسية. جمود طويل في العلاقة بين الدول وبين مواطنيها تَمثل دائماً في المسافة المتباعدة بين القائد وشعبه. صارت الدول تتحرك خارج الحس الإنساني. غابت عنها تجربة الخطأ والصواب. فأصبح كل ما يقوله القائد أو يفعله هو إنجاز. لا يبادر القائد إلى نقد الذات أو التراجع، بل يمضي قدماً في أخطائه. نسي الناس في بلدان العالم الثالث على مدى قرون مفهوم الحرية. مفهوم النقد الذاتي. مفهوم التراجع عن الأخطاء. أصبحت حرية التفكير خطيئة. صارت الأمة تنتج منظرين يفلسفون الظلامية ويدافعون عنها ويمنحونها القدسية اللازمة لاستمرارها. يأتي الملك عبدالله مع فجر القرن الحادي والعشرين ليعلن خروج الأمة من هذا السبات ليعلن بكلمات لا لبس فيها: (يشهد الله أنني ما ترددت يوماً في توجيه النقد الصادق لنفسي إلى حد القسوة المرهقة خشية من أمانة أحملها) تلخص هذه العبارة الطريق الجديد الذي بدأ الملك عبدالله السير فيه وممارسته لكن مفهوم النقد لا يستقيم إلا بالحرية فيعلن حفظه الله (الحرية تكون في التفكير والنقد الهادف المتزن والمسؤولية).
الكتاب والمفكرون السعوديون يعرفون هذه الحقيقة على الواقع. وضع الملك عبدالله قيم الحرية على أرض الممارسة قبل أن يضعها في صورة مبادئ. الكتاب والمفكرون السعوديون عرفوا هذه الحرية واختبروها ومارسوها حتى أصبحت جزءاً من حياتهم اليومية. لتأتي المملكة وتسبق دولاً كثيرة في مجال الحرية على كافة الأصعدة. زالت الحماية المقيتة التي كانت تحيط بالمتنطعين دينيا. كما زالت عن المتنفذين من المسؤولين. دخل كل شيء تحت طائلة النقد والمساءلة والتغيير. ارتفع المواطن السعودي بحس المسؤولية فاتضحت الرؤية أمامه. صار يعرف حقوقه ويعرف حق الوطن عليه. شعر بقيمة المواطنة. لم تعد قيداً ومطلباً وصبر جميل. دخل مرحلة النضج والحياة المتسمة بالمسؤولية والإنتاج. صار يميز المشروعات الجادة ويفرزها عن غيرها المتسمة بروح الإعلام. صار يعرف أن التعليم لا يمكن تغييره في أشهر ولكنه يحتاج إلى سنوات ويعرف أن تطوير القضاء عملية معقدة تتطلب حذراً وحزماً. صار يعرف أن المشاكل الاقتصادية لا تحل بقرارات سحرية وإنما بعمليات معقدة تتطلب وقتاً. صار المواطن في عهد الملك عبدالله شريكاً في التفكير وفي الإحساس بالمسؤولية لا طفلاً غراً عليه الإنصات.
في هذه المرحلة من التطور النوعي في ذهنية المواطن السعودي ودخوله عصر الحداثة الذي أطلق عليه يد مؤسس البلاد الملك عبدالعزيز وتمت صيانته على مدى عقود. كان لا بد من النظر إلى وحدة البلاد وترسيخها بقيم جديدة. كان لابد من اقتلاع المناطقية والمذهبية والقبلية والعوائق الأخرى التي تقف في طريق البناء والرخاء والتقدم. قيم جديدة تتزامن مع قيم الحرية والتفكير الحر المسؤول. للذهاب إلى المستقبل لا يمكن الاحتماء بالماضي. نحن كما أوضح الملك: (في زمن لا مكان فيه للضعفاء والمترددين).
فاكس: 4702164
yara.bakeet@gmail.com