علي في كل مرة تقترب فيها الامتحانات -كما هي الحال قبل فترة- بأن أقنع ابنتي ريما ذات الثلاثة عشر ربيعاً بأن عليها فقط أن تحفظ هذه الصفحات حتى لو بدا لها أن الأمر هزلي ولا معنى له.
أرى من الصعوبة بمكان أن تتحدث مع هذا الجيل بلغة كهذه... فأنا أردد .. حقاً يا ريما فأنا لا أجد معنى لما يجب أن تفعليه سوى الرغبة في أن تنتقلي للصف التالي حتى لو لم يكن لما تقرئين أو تحفظين معنى في حياتك..لكني أعود لنفسي في ذهول وكأنني أتحدث من داخل الكهف.
أية رسالة تلك التي ستصلها.. عبر هذا المنهج الممدرس.
إن ما تفعله ريما بشكل يومي وفي معظم ساعات يومها في المدرسة هو ألا تتعلم....إنها فقط تمارس الحضور المدرسي في حين يتم تغييب العقل المعرفي لصالح التسطيح واللاعقلانية..ساعات الحضور المدرسي الطويلة تعلم الطلبة والمعلمين لعبة الاحتراف في تضييع الوقت حتى يرن جرس الحصة الأخيرة فينطلق الجميع في حبور هرباً من مبانٍ مدرسية تضم بين جنباتها كل يوم أكثر من أربعة ملايين طالب وطالبة.
التمدرس ظاهرة عالمية..كما هي ظاهرة التطبب! (أي من الطبابة) وتعني في لغة غير المتقعرين أن نتعود على الظاهرة المدرسية وندمنها حتى لو لم نتعلم فعلاً من المدرسة تماماً كما يحدث اليوم مع كل أطفالنا والتطبب لا يختلف كثيراً فحين نقع أسرى لمرض معين فنحن بالضرورة سنهرع للمستشفى أو لأحد الأطباء الخاصين ونشعر بالكثير من الرضى حتى ونحن نعرف أنهم لا يقدمون لنا لا التشخيص ولا العلاج المناسب... وها أنا وفي ذات السياق أسأل نفسي.. كيف أنني أعرف حجم التسطيح العقلي والإنساني الذي تتعرض له ريما كل يوم ورغماً عن ذلك لا أملك خيار عدم ذهابها للمدرسة إذ إننا يجب جميعاً أن نذهب للمدرسة سواء تعلمنا أم لم نتعلم!
لقد مدرس خيالنا بالدرجة التي أصبحنا مهيئين فيها للخلط بين الأشياء بحيث أصبحنا نقبل الخدمة بدلاً من التفكير في جدوى وفعالية هذه الخدمة مثل إقناعنا بالذهاب للمدرسة حتى لو لم نتعلم وهكذا خلقت حالة من الاعتماد النفسي والاجتماعي جعلتنا أسرى لخدمات هذه المؤسسات فما لم نحصل على اثنتي عشرة سنة من التعليم أو أكثر فإننا سنوصم بالجهل كما لن نحصل على عمل.
يجب علينا فقط أن نتأمل الجدول الدراسي اليومي لطفل المرحلة الابتدائية حتى ندرك حجم الوقت الضائع فيما لا معنى له بالنسبة لهذا الطفل وفي هذه المرحلة.. ويتكرر الأمر في معظم المواد الدراسية المكررة يوماً بعد آخر وسنة بعد أخرى.
المواد والمفاهيم الرياضية والعلمية تحتل مرتبة أدنى في سلم المعرفة اليومي المقدم للطلبة والتلقين منهج عقلي يتم من خلاله تحوير العقل البشري ليصبح أداة لإعادة الإنتاج الاجتماعي والثقافي من خلال شحنات التنشئة الاجتماعية السالبة لنفس بشرية كان يمكن أن تكون مبدعة أو قاصة أو رسامة أو عالمة.
أظهر الطلاب السعوديون مستويات متدنية تماماً في المسابقات العالمية في الرياضيات والفيزياء مقارنة بنظرائهم من بلدان أخرى ولا عجب فمستوى ما يقدم وأسلوب تقديمه والوقت المخصص له في اليوم الدراسي إضافة إلى ضعف المقدمين الأساسين لهذه المفاهيم وهم المعلمون والمعلمات كلها عوامل أنشبت أظافرها في عقول هؤلاء الصغار.
يضاف إلى ذلك أساليب التقويم المدرسي التي تم تطبيقها خلال عشر السنوات الأخيرة سواء ما تعلق منها بالتقويم والترفيع وهو المطبق في المرحلة الابتدائية اليوم والذي نظراً لعوامل كثيرة منها كثرة عدد الطلاب في الفصل الواحد بحيث تصبح فكرة التقييم صعبة التطبيق أو هو سوء وعدم فهم بعض المعلمين لآلياته أخلي من كثير من أهداف وجوده.
وحين ننتقل إلى المرحلة المتوسطة والثانوية تصبح الملاحظة أكبر فالسياسة هي اللاعب الأكبر وليس استيعاب المفاهيم العلمية والرياضية. المواد الدراسية لا تقيم على نفس الدرجة من الأهمية والمواد التي يمكن للطالب أن يرسب فيها إذا حصل على أقل من خمسين بالمائة هي فقط المواد الدينية ومواد اللغة العربية أما الرياضيات والعلوم والفيزياء والكيمياء وكل علوم العصر الحديث فلا يحتاج الطالب لأكثر من ثمانٍ وعشرين درجة لاجتيازها بل إن الطالب إذا رسب في مادتين من هذه المواد في المرحلة الثانوية يخير في الترفيع في واحدة منها فيختار الكيمياء مثلاً أو الرياضيات ليتم ترفيعه فيها وليرسب في الثانية ويعود ليختبرها في الدور الثاني وهو الذي لا يحتاج لاجتيازها أكثر من 28 من مائة!
هل يبدو لكم هذا الكلام مثل التخريف وهو يقع لنا جميعاً ونتاجاته المدرسية هم أبناؤك وأبنائي فأي تسطيح كهذا حين نشارك في تجهيل أجيال وجعلها عاجزة عن التسلح بالمهارات التي لن يستطيع العيش أو العثور على عمل بدونها.
يمكن لنا جميعاً ويجب في الحقيقة أن نطرح للحوار الجماعي موضوع أساليب التقويم التي لا يقصد منها النجاح أو الرسوب بل تعني درجة استيعاب المتلقي للمفاهيم المدروسة فهل يستطيع فعلاً طلاب المرحلة الثانوية ورغم عدد الساعات الكبيرة التي تلقوها في دراسة اللغة العربية على سبيل المثال أن يكتبوا نصاً لغوياً سليماً يرسلونه لشركة بحثاً عن عمل ويشرحون فيه آمالهم وطموحاتهم وهل تساعد دراسة الفيزياء على تشكيل العقل الإنساني وإدراك حجم التغيرات التي تطرأ عليه من خلال التغير الهائل الذي طرأ على القوانين الفيزيائية التي تحكم فهمنا للذرة وللقوانين الفيزيائية المسيطرة على هذا الكون؟ كما هل يفهم الطلبة فلسفة الرياضيات ويكونون قادرين ليس على حفظ قانون وإعادة حل مسألة تم تدريبهم عليها في الفصل استعداداً للامتحان بل تطبيق المفاهيم الرياضية واحتمالاتها الإحصائية فيما يعن لهم من أمور حياتية؟!!!
من الجائز جداً ألا يتمكن ابني سعود ذو خمس السنوات من العثور على عمل ذي دخلٍ مجدٍ إذا ما حاول تسلق أشجار هذا النوع من أساليب التعليم ضمن نطاق التدريس فما الذي يجب عليه وعلينا فعله لمواجهة مستقبل غير محسوم؟.