لم نكد نفيق من فاجعة مصرع ثلاث معلمات في حادث انقلاب على إحدى الطرق الوعرة بالمنطقة الجبلية في جازان، حتى دهمنا خبر مصرع معلمات محافظة ينبع؛ فلقد عاشت هذه المحافظة الوادعة
على ضفاف البحر الأحمر قبل أيام حدثاً مأساوياً بمصرع معلمتين وسائقهما وإصابة زميلتهما؛ إثر تصادم السيارة التي تقلهن مع سيارة أخرى على طريق (ينبع النخل - العيص) أثناء رحلة العودة من مدرستهن في منطقة القرص، يوم الأربعاء 27 صفر 1429هـ، وهو الحادث الذي أعاد أحزان ينبع بالذكرى الأليمة لاحتراق خمس معلمات في طريقهن لقرية القراصة بمحافظة ينبع في 14 صفر 1428هـ، بل فتح الملف الملتهب على المستوى السعودي كله، وهو ملف (حوادث المعلمات) الذي ما زال في ميدان التقاذف بين الجهات الحكومية عمن يتحمل المسؤولية بين وزارة النقل بخطوطها البرية وشبكة طرقها التي التفت حول المدن ونسيت القرى والهجر، ووزارة التربية والتعليم بشروط التعيين أو آليات حركة النقل بالتنسيق مع وزارة الخدمة المدنية، ومديرية المرور بأنظمتها وقوانينها الرادعة، وعلاقة ذلك بأمن الطرق من جهة وهيئة المواصفات والمقاييس من جهةٍ أخرى؛ لذا لم نستطع أن نقفل هذا الملف الأحمر بشكل حاسم، أو على الأقل نتفق على خطوات سريعة لمعالجته؛ فمسلسل الحوادث مستمر ويتخطف بناتنا في حلقة من حلقاته، وفواجعنا تطوف بيوتنا الهانئة حتى استبد القلق بأولياء أمور المعلمات اللاتي يخرجن للتدريس في المناطق النائية أو خارج المدن، ويسلكن الطرق التي تفتقر إلى أبسط متطلبات السلامة المرورية من طرق مزدوجة ولوحات إرشادية ونقاط مراقبة ودوريات أمنية، خاصةً أن دراسة علمية أجريت بتمويل وإشراف من اللجنة الوطنية للسلامة المرورية تؤكد أن معدل حوادث المعلمات بلغ (6) حوادث لكل (100) معلمة، وهو رقم مخيف إذا تحول من مجرد رقم في صفحات الدراسة إلى أرض الواقع، بما يعكسه من كوارث وتداعيات سالبة على شتى المستويات وتحديداً المستوى الأسري (الاجتماعي) ثم الاقتصادي وغيره من المستويات الوطنية، بل لك أن تتخيل حجم المأساة التي ترسمها دماء المعلمات الزكية على الطرقات السوداء، عندما تعلم أن السنوات الثلاث الأخيرة شهدت (119) حادثاً نتج عنها وفاة (140) معلمة وإصابة (596) معلمة، ولا تدري كم عدد المعوقات أو العاجزات عن العمل وسط هذا الرقم الكبير، ناهيك عن الأثر الاجتماعي السالب المدمر على أسرة فقدت الركن الرئيس في كيانها وهو (الأم) المعلمة، التي خرجت تسابق طيور الصباح الباكر لتؤدي رسالتها الخيّرة في المدرسة مع رسالتها الجليلة في المنزل، لا تعود إلى عشها بل يحملها نعشها! وقس على ذلك الأخت التي تطعم إخوتها أو البنت التي تسند عجز والدها، وهذا ما حدث بالفعل مع الأخ أسامة المشاري زوج إحدى المعلمات المتوفيات في حادث ينبع الأليم، فلقد خرجت زوجته لمدرستها تاركةً خلفها طفلاً لم يتجاوز السنوات الثلاث، لكنها لم تعد إلى بيتها لتحضن طفلها وتواصل مسيرة الحياة مع زوجها!
هل ضلت الطريق؟ هل حبسها المطر؟ هل تعطلت السيارة التي تقلها؟ هل تخاصمت مع زوجها؟.. لم يحدث أي من هذا! إنما سقطت وزميلاتها عليهن رحمة الله ضحايا (الطرق المتهالكة)، وغياب المسؤولية التعليمية وضعف الرقابة المرورية، نعم فرواية الحادث تقول إن الطريق غير مزدوجة، وهو ما يجعل التجاوز بين السيارات المتقابلة أشبه بمغامرات السباق، فهل عجزت وزارة النقل عن تعبيد الطرق لحماية الأرواح بإذن الله، رغم أن الدولة تنفق الملايين على شبكة الطرق وخطوط المواصلات البرية؛ كونها من لوازم البنية التحتية الرئيسة للدولة، خاصةً وبلادنا شبه قارة لا يمكن أن تتواصل بنسيجها الاجتماعي، وتنهض ببرامجها التنموية، وتتحكم بأطرافها البعيدة إلا من خلال شبكة طرق عنكبوتية تشمل المدن والقرى. هنا لا أحمل وزارة النقل المسؤولية وحدها، إنما هي سلسلة ترتبط بجهات حكومية محددة، فإن كانت وزارة التربية والتعليم قد أنشأت المدارس في القرى والهجر في المناطق البعيدة والنائية ووفرت لها الوظائف التعليمية، ورضيت المعلمات بالتعيين هناك للحاجة أو الأمل بالنقل رغم منغصات الوساطة وأيدي المحسوبية، فإن وزارة النقل مسؤولة من جهة توفير الطرق والخطوط المجهزة بكل شروط الأمن والسلامة وسرعة الاتصال، على الأقل أن تكون طرقنا (مزدوجة)؛ كي نتلافى أخطاء السائقين أو مشاكل القيادة في الأحوال الجوية السيئة، كما يجب أن يتدخل أمن الطرق بالتعاون مع مديرية المرور في وضع شروط صارمة لسيارات نقل المعلمات، سواء الحافلات الصغيرة أو المركبة الصغيرة أو غيرها مما يستخدم لهذا الغرض؛ كون المسألة الآن غدت تجارة لدى كثير من الناس، بعضهم للأسف يتهاون في سلامة مركبته، حتى أن الدراسة التي أشرتُ إليها ذكرت أن مركبة من بين (5) مركبات نقل معلمات يتجاوز عمرها 10 سنوات، كما أن نسبة 22% من هذه المركبات يستخدمن إطارات غير صالحة أو تعدت عمرها الافتراضي.
أخلص إلى أن قضية حوادث المعلمات لم تعد (مشكلة مرورية) يمكن رصد مسبباتها ومن ثم محاصرتها بالأنظمة والعقوبات، أو أنها تحتمل الدراسات المتأنية واللجان المشتركة لمعالجتها، بل تحولت إلى (كارثة وطنية) مستمرة في حصد الأرواح البريئة، جعلت منها (ظاهرة دموية)، والأرقام تشهد بهذا؛ ما يعني وجوب التعاطي معها على محورين: الأول (الحل السريع والدواء الناجع) من قِبل الجهات ذات العلاقة المباشرة بوقوع الحوادث، بعيداً عن تحميل (سائقي حافلات أو مركبات نقل المعلمات) مسؤولية الخطأ أو سبب الحادث؛ لأن ذلك هروب حقيقي من المشكلة بوضع وزرها على الأموات عليهم رحمة الله. أما المحور الآخر فيكون بفتح المجال لكل الأفكار متعددة المصادر من أكاديمية واقتصادية وفكرية وأمنية، التي تعطي حلولاً استراتيجية وخطوات زمنية طويلة تحل المشكلة من جذرها، بحيث تتحول الأفكار المقدمة إلى قرارات رسمية واضحة توقف نزيف دماء بناتنا؛ فأولياء أمورهن يصرخون بألم ومرارة: مَنْ يتحمل المسؤولية؟
Kanaan999@hotmail.com