من المهم أن تفهم الغاية من تصرف تظهره للناس، لكن الأهم أن يفهم الناس غايتك منه حتى لا يسيئوا تفسيره فتتحول مسارات الأمور إلى أضدادها.. مشكلتنا أننا في كثير من أمورنا نرى صوابا فنفعله على افتراض أن الناس سيفهمون غاية فعلنا الطيبة، وسيتحقق في نفوسهم عنا ما كنا نأمله، حتى إذا جاءت ردود أفعال الناس أو نظرتهم لما فعلنا غير التي كنا نأمل ألقينا اللوم عليهم ووصفناهم بالجحود والنكران وعدم تقدير الأمور كما يجب.
ولإيضاح الأمر تحضرني قصة سمعتها في إحدى الدورات عن شركة تدنى مستوى أداء موظفيها بشكل ملحوظ، وتدنى تبعا لهذا مستوى الإنتاجية حتى وصلت إلى حد أن تتكبد الشركة خسائر مالية مؤثرة بالإضافة لما لحق سمعتها من عدم قدرتها على الوفاء والالتزام بتعهداتها أمام عملائها، والوضع بات يتطلب التدخل الفعال والسريع وبحث أسباب هذه الكارثة التي بدأت تلقي بظلالها على مستقبل الشركة وقدرتها على مواجهة التحديات. باهتمام بالغ اجتمع المدير العام بجميع العاملين لبحث الوضع والوقوف معهم على مسببات تدني الإنتاجية واتخاذ الإجراءات المناسبة لانتشال الشركة من كارثة على وشك أن تحل بها، واشتكى الموظفون بدورهم من تزمت مديرهم وحرصه البالغ على تطبيق القوانين دون مراعاة للظروف أو الاعتبارات الإنسانية، ومن أنه يتعامل معهم كأدوات وآلات لا مشاعر لها، مما أوجد في نفوسهم هذا الإحباط الشديد الذي قاد إلى تدني إنتاجيتهم ولا مبالاتهم وغابت اجتهاداتهم ومثابرتهم. ولأن المصلحة العامة فوق كل اعتبار، لم يجد المدير العام غير نقل المدير المسؤول إلى موقع آخر وتكليف امرأة لتحل مكانه لظنه أن المرأة تعطي الجانب الإنساني اهتماما أكبر وستتواصل مع الموظفين بصورة تحاكي فيها مشاعرهم مما سيمكنها في نهاية الأمر من رفع الروح المعنوية وبالتالي رفع مستوى الإنتاجية. في أول يوم لها حرصت المديرة الجديدة على المرور في بداية العمل على كل الموظفين في مكاتبهم لتلقي عليهم تحية الصباح وهي تحمل وردة كعربون لبداية تواصل فعال ولتبديد مخاوف الموظفين، وفي نهاية الدوام تكرر ما فعلته في الصباح لتتمنى لكل موظف يوما سعيدا، كانت تفعل ذلك كل يوم بسعادة بالغة دون كلل، ومر شهر على ذلك دون أن يكون هناك ولو مؤشر بسيط على ارتفاع مستوى إنتاجية الموظفين الأمر الذي دعا المدير العام أن يستدعيها ويسألها عن السبب ولماذا لم تستفد من تجربة من سبقها، عبثا حاولت تبرير حرصها على العوامل الإنسانية وأنها في بداية الدوام وفي نهايته تتواصل مع موظفيها بصورة إنسانية لتتقرب إليهم، فالنتائج تقول بعدم جدوى ما تفعله. في الاجتماع الثاني الذي عقده المدير العام مع الموظفين سألهم عن السبب بعد أن راعى مطلبهم السابق وعين مديرة لها لمسات إنسانية واضحة في تصرفها اليومي، ردد الموظفون بأن المشكلة تعقدت، فالشركة عينت في السابق مديرا لا يهتم بالموظفين ويعاملهم وكأنهم آلات، وها هي تعين مديرة لا تثق بهم وتحرص أن تمر كل صباح لتضمن تواجدهم في مكاتبهم تحت مبررات سخيفة وفي نهاية الدوام لتضمن عدم خروجهم المبكر تحت مبررات أسخف وكأنهم أطفال لا يعملون إلا تحت رقابتها. الشاهد من هذا أن الناس قد يفسرون الأمور بحسب ما يرون لا بحسب ما يقصد محدثها إن لم تبين لهم الغاية من هذا الفعل أو ذاك، وقد يفهم الناس عنا أفعالا نظهرها على عكس ما نريده منها وحينها فاللوم لا يقع على الغير إنما يلام من فعل فعلا دون الاهتمام بتبيان غايته منه.. والله المستعان.
naderalkalbani@hotmail.com