بالتأكيد أي كتاب يعلوه اسم الكاتب اللاتيني الشهير غارسيا ماركيز، لابد أن يغرينا لالتقاطه لنمضي معه مائة عام من العزلة.
فالروائي الشهير الحائز على جائزة نوبل، والذي استطاع أن يسلط الأضواء بكثافة على أدب أمريكا اللاتينية وينقله للعالمية، من خلال رواياته الآسرة مثل، الحب في زمن الكوليرا, ليس لدى الجنرال من يكاتبه، الجميلات النائمات، وأعيش لأكتب. يقدم تجربة فنية مختلفة عبر هذا الكتاب.
فكتاب (عملية اختطاف) تتقلص فوق صفحاته تلك اللغة الفنية الجذابة، وتتلاشى تلك الأحداث والشخصيات الأسطورية التي اعتدناها في رواياته، والتي تجعل المطر يستمر في الانهمار لمدة عام كامل مثلا، أو الجدات اللواتي يثرثرن دوما مع جنيات الأساطير والأشباح.
كتاب (عملية اختطاف) يسرد وقائعا حقيقية ناقلا جميع تفاصيلها، أي أنها عمل توثيقي على مستوى معين، لكن مرور هذا العمل بين يدي ماركيز الساحرتين، سيجعله يمتلك العديد من الأبعاد الفنية العميقة وعلى رأسها رصد التفاصيل الإنسانية الدقيقة التي تمنح العمل تميزه وزخمه الفني.
فالرواية تدور حول عملية اختطاف لسيدتين تعملان في الحكومة من قبل عصابات بيع المخدرات في كولومبيا، والاختطاف هو محاولة من العصابات للضغط على الحكومة كي ترخي قبضتها عن تلك الصناعة الهائلة التي تقوم في كولومبيا من خلال الزراعة والاتجار بالمخدرات.
ومع تتالي الأحداث والشخصيات يدخل على السياق السردي الكثير من التفاصيل التي تعكس طبيعة الحرب الشرسة التي تخوضها كولومبيا مع أولئك التجار, وعن دور الولايات المتحدة السري في هذه الحرب، وسعيها إلى دفع الجهات التشريعية هناك إلى استصدار قوانين تسليم تجار المخدرات إلى الولايات المتحدة بعد القبض عليهم، وأخيراً دور الإعلام في الملاحقة والكشف وتسليط الأضواء على المسكوت عنه أو الذي لايناقش، بالشكل الذي يعرض الإعلاميين أنفسهم إلى القتل والتصفية.
ومع نهاية الرواية، وبعد أن يكون القارئ ارتباطاً نفسياً عميقاً مع شخوصها وتفاصيلها، سيعلم كم هي شريرة تلك الحرب التي تقودها كولومبيا، مابين هجوم وكر وفر، وصفقات سرية تمرر بالخفية بين الحكومة وعصابات التجار، وقتلى وجرحى والكثير من الخسائر المادية، بحيث تقترب من الحرب الأهلية التي تستنزف مقدرات البلد واستقراره ونموه الحضاري.
وبنظرة متعمقة أخرى للرواية، وإذا حاولنا أن نتقصى تفاصيلها، لوجدنا في كثير من المواقف، إن الصراع هو أمر حتمي، وإن كل بلد لابد أن يخوض حربه الخاصة مع رموز الشر والظلام، وإن كل مجتمع له حربه الخاصة على مستوى معين مع جميع من يحاول أن يستلب الوعي ويغيبه ويخدره، سواء عبر المخدرات، أوالفساد، أوعبر الطروحات الظلامية التي تستتر وراء جلابيب الفضيلة والعدالة.
ليست كولمبيا وحدها من تخوض هذه الحرب، بل هناك أصقاع شتى في العالم، تكابد صراعاً شرساً بهدف الانتصار للإنسان
وكرامته وحرياته.
والمميز هنا أن ماركيز استطاع أن يعكس جميع هذا بشكل فني متميز، واستطاع أن يتجاوز التقرير الصحفي التوثيقي لينحت عميقاً في أبعاد التجربة الإنسانية المذهلة التي نجدها قد تبلورت بين أيدينا بعد الانتهاء من قراءة الكتاب.