تزال في ذاكرتي صورة لكِ حين كنتِ تستبشرين بتلات الفل والورد بمسقاكِ...
لا تكتفين بندى الفجر يمسح ورقاتهنّ بنداه...
كانت في يدكِ قطرات الماء سلسبيلاً لرواء آخر غير رواء العطش...
تلك الزهور علَّمتني كيف أشعر بالشجرة وكيف تحفل هي بثمارها...
فيما كنتِ تعلِّمينني حكمة التبادل...
فلا أُم في الوجود لا تحفل بوليدها...
حتى الشمس تحفل بالنور حين تستوي في كبد السماء فلا ذرّة محجوبة عنه إلاّ ما استظل...
تلك مهمّة الموجودات في احتفالية العطاء ذلك الذي ذرّه ودرَّه خالق الكون...
حين كنتِ تستدعينني قبل أن أغادر للمدرسة لأشهد رواء الشجر...
أذكر وأنتِ تقولين لي: راقبي التراب عند جذوع الشجيرات كيف يلتهم الماء...
وكنتُ أسألكِ كيف قبل أن أبلغ الإجابة...
فتشيرين لي بإصبعك إلى موضع العقل في رأسك ليكون المقصود به عقلي...
وكثيراً ما نهبت العربة الطريق بين الملز والمربع ولم أكن أتنبه إلاّ إلى أنّ العربة توقَّفت داخل سور المدرسة وبأنّ عليَّ مغادرتها...
المسافة كلها كنتُ أعالج موضع عقلي ليهمي عليَّ بإجابة السؤال: كيف التراب يلتهم الماء...؟
ذات صباح بعد أن أمضيت ساعات قبله أسترجع فيها مادة اختبار كنت أذرع الحديقة طولاً وعرضاً، راودتني صورة إصبعك والماء يغور مسرعاً في جوف الأرض والشجرة تنوف خضراء... وأنتِ هناك قرب الشجر...
جاءني الجواب : يا قدرة الله هناك...
كلُّ الأشجار صغيرها وكبيرها قريبها وعاليها أخضر مثمراً... لا شكّ أنّه الماء...
يا نوَّارة : الشجر اليوم تلتهبه الشظايا ويحزنه العطش ويموت تحته البشر وتجتث فيه الحياة...
الماء يشحُّ في الوجوه فكيف لا تشحّ به الأرض...
في هذه الصباحات أتلمّس موضع إصبعك لا لأفكر في إجابة كيف يستقي الشجر ولماذا تلتهم التربة ما تسقينها...
بل لأتساءل لماذا تعجف أشجار القلوب... وتعطش النخوة في ثراها... ويموت الثمر في عقولها... وتحرقها زمهريرية شتاء الجفاف في ضمائرها... وتصيخ عن صوت الماء الساخن ينسكب على جوفها فلا يحرقه:
و(الضمير العربي) كلمات تصدح في الفجر كما قطرات مائك...
تغور في تربة الدمع والقهر وتنبت بها شجيرات الأسئلة والحزن...
وبينما كانت شجراتك تنوف بالثمر والزهر خضراء يانعة...
تنكفئ شجرات الضمائر جافة محروقة فوق ثرى معفر بالجثث والقلوب... معجون ببارود...
تئن فيه الزهور...
والمسافات تعبر وكلٌّ يتجه عنه في منأى عن إصبعك... وإناء مسقاكِ...
فلا رحمة بالبشر...
***
نوَّارة :
نامي قريرة فثمة قطرة ماء ستشهد لكِ وذرّة تراب...
وشجرة تنوف في ميزانكِ...
تلك رحمة الله يوم كنتِ رحيمة بالثرى والشجر...