قراءة - عبدالله السمطي
يشكل التعبير عن الموروث سواء كان شعبياً أم رسمياً، فضاء جلياً في عدد غير قليل من اللوحات التشكيلية التي تضمنها المعرض الرابع للفنانات التشكيليات، ولأن الموروث في المملكة يمثل ثقافات متعددة تشكل المكون الثقافي العام فإن هذا التعدد منح الفنانات مساحة كبيرة: بصرية، ولونية، ودلالية لاستلهام هذا الموروث، هذا الاستلهام سوف يستدعي بلا ريب موروثات مغيبة، وموروثات حاضرة ما تزال تشكل نمطاً من أنماط الحياة في بعض مناطق المملكة، وهو ما يشكل في اللوحة التشكيلية عناصر: التذكر، والتمثل، والاستيهام، وهي حالات تقف بنا على أهبة التأويل كلما حاصرتنا اللوحة بجمالياتها ودلالاتها التي تنبثق عنها.. وقد تجلى هذا التعبير عن الموروث - تمثيلا - في لوحات: فوزية المطيري، خديجة سعيد الغامدي، خولة القعود، ريم العيسى، حنان الهزاع، إسراء خالد، صالحة العساف، نوف غازي، سوزان اليحيى، ففي هذه اللوحات تتعدد أنماط الموروث ففي اللوحات تحضر الألوان الزاهية الأساسية، والخيوط والنسيج، والأواني الشعبية، والأشكال الخزفية، ونسج خوص النخيل، والرقصات الشعبية، والقلاع القديمة، والتعاشيق الإسلامية، ويبقى سؤال الماهية والتوظيف والترميز سؤالاً يحدد القيمة الفنية للوحة، خاصة إذا ما تجاوزت ما هو تقليدي وواقعي حينا إلى ما هو أكثر عمقا ودلالة على اعتبار أن الموروث يمثل مادة خاماً، طيعة، والقدرة على تحويلها عبر الألوان والخامات إلى سؤال عصي مختلف هو ما يميز لوحة عن لوحة.
وعلى الرغم من دقة بعض اللوحات، كما لدى خديجة الغامدي وأريج الهزاع وبعض لوحات سوزان اليحيى تبقى معظم اللوحات مسكونة بهذا الإطار الواقعي التقليدي في نقل الموروث ومحاكاته.
تكوين وتجريب
على الرغم من أن اللوحة تعتمد بشكل بنيوي على التكوين والدمج والتجاور والتركيب، فإن الفنانة حميدة السنان لم تسم لوحتها ب(تكوين) بل عنونتها ب: (هناك أمل في الحياة)، وهذا العنوان يشير إلى أن للحياة أوجهها المتعددة التي تتقنع بين الحضور والغياب .
وتقدم لنا لوحة حميدة السنان نصاً تشكيلياً متواشجاً يتشكل من ثمانية مشاهد ما بين الإنسان في دهاليز الغياب والغموض، إلى اليد النازفة الممسكة بفتيل قنبلة، واليد المقطوعة تستند إلى الأرض فيما ثمة نسوة منتظرات على الشاطئ، والانتظار هنا يعني أن ثمة عودة أو لا عودة، في المشهد الأخير اليد الممسكة بكابل التوصيل وكأن ذلك بمثابة إعادة للحياة.
ومن خلال هذه البعثرة التكوينية فإن اللوحة تدفعنا دفعاً إلى التخيل، وإلى إعادة نسجها وتركيبها ذهنياً للوصول إلى حالة دلالية ما، تكونها المشاهد المتجاورة والمتراكبة معا، وهذا سر جمالها.
وهنا يمكن أن نشير إلى أن ثمة علاقة بين التكوين والتجريب في اللوحة، تتمثل في أن التجريب مطلق جمالي مفتوح على ما تؤديه المخيلة، فيما أن التكوين هو نتاج هذه المخيلة الذي يعتمده الفنان، الذي يتحول بعد ذلك إلى أسلوب فني، التجريب عمل دائم للتخيل، والتكوين تثبيت فني لهذا العمل، وقد حفل المعرض بلوحات كثيرة في هذا الإطار منها لوحات الفنانات: منال الرويشد، عفاف الخالدي، فوزية الخميس، عبير المقرن، نورة النهاري، نوال السريحي، ومن اللوحات التجريبية لوحات: هبة القوداني، حنان حلواني، عبير ولي، فوزية القثمي، فوزية المطيري، ندى الحميد، اعتدال المقرن، سوزان اليحيى التي قدمت لوحة ثلاثية واقعية، تمثلت فيها حركة الوجوه، الحركة والعمل والسلم الخشبي، وبناء البيوت الشعبية بشكل رهيف.
بيد أن ثمة لوحات كانت تحتاج إلى قدر من الدقة الفنية، فضربات الفرشاة مثلا لدى عفاف الخالدي في (تكوين) غير ملائمة لسياق اللوحة، والشجرة الجرداء، العارية من أوراقها، والطقس الأزرق الداكن والغيوم الكثيفة لا يتلاءم معها سطوع الشمس في لوحة (تكوين) لحنان الحارثي.
وفي لوحة (انكسار) لنورة النهاري، على الرغم من أن تأويلها قد يفضي إلى التعبير عن قيمة الانكسار بالجسد، فإن ملامح الانكسار قد يكون من الملائم إظهارها على الوجه، أو حتى على تعبيرات العينين، إلا أن اللوحة أخفت الوجه كلية، كما أن لوحة المسجد لفاطمة حسين لا يوجد لها أية دلالة فنية، لا يوجد فيها حياة أو حتى مغزى لوني أو ضوئي محدد، كما أن لوحة (قلعة مارد) لمريم العيسى هي مجرد محاكاة تقليدية.
من البديهي أن اللوحات تستلهم معظم القيم الفنية، من النعومة إلى البروز، ومن إشاعة الجدل والتضاد والحوار اللوني ما بين الدكنة والتوهج، ومن تمثل عناصر البيئة المختلفة، لكن التجريب يظل هو الفضاء الأمثل للحاق بالتجربة الفنية التشكيلية الحداثية، كما نجد في اللوحات التجريبية مثلا لدى نورة النهاري وفوزية القثمي، وهدى جبلاوي، وإيمان حبيب.
من بين لوحات ألم عرض تأتي لوحات أمل سعود الخميس، في لوحة: (تمرد بخور) تقدم الوجه الأنثوي في نضارته وعفويته بالزي الشعبي، الألوان الهادئة الناعمة تماماً، ممسكة بالمبخرة، مغمضة العينين سارحة في خيال البخور وتمرده، ألوان أمل الخميس رقيقة جداً، حالمة وناعمة، كما في (وفاء الريحان) التي استخدمت فيها اللونين الأزرق بدرجاته والأبيض.
إن المساحة المكانية التي شغلتها اللوحات في هذا المعرض، تشير إلى اتساع جمالي ثري يعطي زخماً بصرياً لم نشهده إلا في لحظات نادرة، كما يشير إلى تعدد التأويلات التي تحقق ثراء متفاعلاً بين اللوحة كنص جمالي وبين النقد الفني، ومن هنا تجيء أهمية هذا المعرض العام الذي أعطى مساحة من الخصوبة الفنية التشكيلية الرائقة التي تصفي الحواس، وتعيدها إلى براءة لونية تترامى في أطراف الروح.