الغلاء ليس حكراً على هذا العصر، فكل موجة غلاء لا تعدو أن تكون امتداداً لسابقتها. عدد سكان العالم في ازدياد في الوقت الذي تتناقص فيه الموارد الطبيعية، وتتلوث الأجواء بسبب الإنسان، ورحلة البحث عن الثراء. سجل الغلاء بصمته الخانقة في عهد الخلفاء الراشدين، مروراً بالعصور الإسلامية المتعاقبة؛ وكان له وقع على سكان الجزيرة العربية في عهد المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه - بعيداً عن التنظير، أورد اليوم بعض التجارب العملية المذهلة لمكافحة الغلاء في عهد المؤسس، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، رحمه الله، رداً على أصوات بعض الاقتصاديين والمسؤولين الذين يعتقدون أن من الخطأ تدخل الدولة في دعم أسعار السلع الأساسية، تسعيرها، أو تولي مسؤولية استيرادها لفك احتكار التجار، ومواجهة غلاء الأسعار، وشح المواد الغذائية.
نعلم جميعاً أن الملك عبدالله بن عبدالعزيز، حفظه الله، أمر بتوزيع الغذاء وكسوة الشتاء مجاناً على المحتاجين، وأصدر الكثير من القرارات الموجهة لمكافحة الغلاء، والتخفيف عن كاهل المواطنين، ومنها دعم الأرز وحليب الأطفال، الأدوية الطبية، خفض رسوم الموانئ، إلغاء بعض الرسوم الجمركية، رفع الأجور والرواتب، خفض الرسوم الحكومية، وأخيراً زيادة معونة الشعير لخفض تكلفته على المستهلك الذي وجد في الدقيق خياراً بديلاً لعلف الماشية ما أدى إلى حدوث أزمة في سوق الدقيق وصوامع الغلال أدت إلى نضوبه من السوق وارتفاع أسعاره في السوق السوداء. كثيرة هي القرارات الداعمة التي أصدرها الملك عبدالله، وولي عهده الأمير سلطان بن عبدالعزيز من أجل تخفيف أزمة الغلاء على المواطنين، ومع ذلك ما زالت بعض الجهات الحكومية غير قادرة على تفعيل قرارات ولي الأمر على وجه السرعة، في الوقت الذي يمارس فيه بعض التجار فنون التحايل على الأنظمة والقوانين، ويتعمدون تطبيق سياسة رفع الأسعار بطريقة مبرمجة زادت من معاناة المواطنين، ويسعون جاهدين لتجيير مبالغ الدعم الحكومي لمصالحهم الخاصة.
نبدأ بأزمة أسعار التمور التي حدثت بسبب انتشار أسراب الجراد. في تلك السنة قضى الجراد على معظم الزروع، والنخيل في المنطقة الشرقية ومناطق أخرى من المملكة. تسبب إتلاف الجراد محصول النخيل بأزمة في أسعار التمور آن ذاك. قفزت أسعار التمر من 1.5 ريال إلى 25 ريالاً لل(قلة) الواحدة، وهو مبلغ ضخم عجزت غالبية الأسر عن توفيره. في أيام معدودات أمر الملك عبدالعزيز باستيراد كميات كبيرة من تمر العراق استقبلتها موانئ المنطقة الشرقية، ومنها ميناء الجبيل الصغير. استأجرت الحكومة أحواش ومنازل متفرقة استخدمت كمستودعات خاصة للتمور. وبدأت الحكومة في تقنين توزيع التمور على المواطنين عن طريق إمارات المدن. نجح الملك عبدالعزيز في توفير التمور الكافية لسد حاجة المواطنين، وبأسعار رخيصة مقارنة بأسعار التكلفة قدرت بخمسة ريالات تقريباً.
الأزمة الخانقة الأخرى ارتبطت بالحرب العالمية، حيث شحت المواد الغذائية وبدأ التجار في رفع الأسعار، وتخزين المواد الغذائية والسيطرة على الأسواق التجارية. أمر الملك عبدالعزيز أمراء المناطق بإحصاء التجار وما توفر لديهم من مواد تموينية. بعد الانتهاء من جمع البيانات وتدقيقها، أمر - حفظه الله - بتقنين توزيع المواد الغذائية على المواطنين، وأمر بتسعير المواد وإعطاء التجار هامش ربح بسيط مقارنة بسعر تكلفة الشراء. كانت تلك هي المرحلة الأولى من علاج الأزمة.
المرحلة الثانية كانت أعم وأشمل، حيث أمر باستيراد المواد التموينية على حساب الدولة، وتخزينها في مستودعات الحكومة التي بني بعضها خصيصاً لذلك الغرض. تم تطبيق سياسة الدعم الحكومي، وتقنين الحصص الغذائية بما يتوافق مع حاجة الأسر والمواطنين. استمر الأمراء، ومن تم تعيينهم رسمياً بإصدار بطاقات التموين التي تم بموجبها صرف الحصص التموينية المخصصة لحامليها. خلال سنوات الحرب استطاع الملك عبدالعزيز ضبط الأسواق، وتوفير الغذاء للمواطنين بأسعار مدعومة وفي متناول الجميع.
في مدينة الجبيل تَزَعَّمَ أحد المسؤولين عن حفظ النظام مجموعة من ذوي العلاقة بالمواد الغذائية المدعومة واتفقوا على تهريب بعضها وتصديرها خفية إلى إيران لبيعها في أسواقها التي كانت تشهد ارتفاعات قياسية.
اكتُشِفَ أمرهم، فلم تشفع للمسؤول البارز وظيفته، ولا مكانته الاجتماعية، بل كان أول من تلقى العقاب الصارم أمام الملأ. كان يؤتى بهم جميعاً إلى السوق صباح كل يوم ويصلبون على الأعمدة (سنطوانه) ثم تلطخ وجوههم بالفحم إمعاناً في الذلة والعقاب. المحاسبة العادلة والردع القوي كفلا نجاح خطة الملك عبدالعزيز في توفير الغذاء المدعوم للمواطنين بعيداً عن أيدي العابثين.
ما يقوم به الملك عبدالله بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده الأمير سلطان بن عبدالعزيز هو امتداد لما قام به الملك المؤسس، رحمه الله، مع اختلاف جزئي في طريقة التنفيذ عطفاً على المتغيرات السكانية والجغرافية التي لم تعد تسمح للحكومة بمباشرة إجراءات التموين، التخزين، والتوزيع. قدمت الحكومة الأموال اللازمة لدعم السلع الغذائية الأساسية، وسهلت إجراءات الاستيراد، وأعفت التجار من نصف رسوم الموانئ، وأوقفت تحصيل بعض الرسوم الجمركية رغبةً منها في خفض تكلفة المواد الأساسية وتوفيرها للجميع. إلا أن بعض التجار أخفقوا في تحمل الآمانة، ولعب دور الحكومة في توفير الغذاء للجميع مع حصولهم على الربح المضمون الذي يجمع بين الدعم الحكومي الثابت وهامش ربح المبيعات، كما أن بعض العابثين نجحوا في تهريب المواد الغذائية المدعومة ما أدى إلى خلق أزمة حقيقية في حجم المعروض من المواد الأساسية.
كي لا تذهب أموال الدعم إلى جيوب التجار أتمنى أن يُعاد النظر في سياسة الدعم الحالية بأن تتولى الدولة، أو من ينوب عنها، في إنهاء عمليات شراء المواد الغذائية الأساسية من الأسواق العالمية وتحويلها مباشرة إلى التجار السعوديين بأسعارها المدعومة على أن يتولى التجار عملية الاستيراد والتوزيع العادل في منافذ البيع الرئيسة وفق التسعيرة الحكومية المعلنة. وكي نضمن بقاء السلع المدعومة داخل المملكة يجب أن يُضرب بيدٍ من حديد على كل من تسول له نفسه تهريب المواد المدعومة، أو تخزينها بقصد الاحتكار والتشهير بهم في وسائل الإعلام، إضافة إلى إصدار الأوامر للجمارك السعودية بمنع تصدير أو إعادة تصدير السلع التي تشهد أسعارها ارتفاعات قياسية في السوق السعودية. يمكن أن تقوم الجمعيات التعاونية بهذا الدور على أكمل وجه، لو قُيِّضَ لها التواجد في المجتمع السعودي. ولعلنا نشير إلى نجاح الجمعيات التعاونية في الإمارات العربية المتحدة في خفض أسعار الأرز بنسبة 35 في المائة تقريباً بعد أن استغلوا الدعم الحكومي لاستيراد المواد الغذائية مباشرة من مصادرها الخارجية. تجربة الجمعيات التعاونية الناجحة في الكويت والإمارات العربية المتحدة، التي أشار لها بعض الزملاء، يمكن أن تطبق هنا مع تعديل بسيط يسمح للحكومة بتوفير الدعم المستمر لها، وأن تكون المركز الرئيس الذي يمكن للدولة من خلاله توزيع المواد التموينية المدعومة أو المجانية أيضاً على المواطنين في حالة الكوارث لا قدر الله، فتقوم مقام مستودعات الدولة التموينية، وربما ساهمت في دعم الخزن الإستراتيجي وتقنين الغذاء وقت الحاجة؛ والله من وراء القصد.
F.albuainain@hotmail.com