Al Jazirah NewsPaper Wednesday  12/03/2008 G Issue 12949
الاربعاء 04 ربيع الأول 1429   العدد  12949
مركاز
الزوق!
حسين علي حسين

في بعض الدول يطلقون مسميات مختلفة على الشوارع الضيقة، فمن يسميها عطفة أو زنقة أو طريق أو ممر، لكننا أسمينا المربع الذي سكنا فيه (الزوق) وفي هذا الزوق طريق سد واحد، وعلى جانبيه ستة منازل، منها منزلنا الذي يقع على الطريق السد القصير والطريق السد الرئيسي الذي لا تزيد منازله عن العشرين منزلاً، لا تزيد مساحة أي من منازلها عن المخزن والنصف (المخزن في المدينة المنورة يعادل 42م مربعاً)، كافة منازل الزوق مبنية من الحجر والطين ومسقفة بالخشب الجاوي وخشب الأثل، ولكل منزل رواشين بدائية صغيرة، لها مقدمة على الطريق الضيق، حتى أن واجهة كل منزل تكاد تلتصق بواجهة المنزل المقابل!

في منزل (الزوق) كانت لدينا ثلاث غرف نوم، واحدة ينام فيها الوالد مع بعض الأولاد، وفي الثانية تنام الوالدة مع الأخت والأبناء الصغار، والغرفة الثالثة والتي تشرف على الطريقين السد كانت خالية، وقد استغليتها أنا وأخي معتوق (باعتبارنا أكبر سكان المنزل سنا بعد الوالدين) لتربية الحمام، الذي كنا نتصيده من فوق سطح المنزل، ثم تخزنه في هذه الغرفة كانت الغرفة تضم روشانين وأرضيتها جدرانها من التراب الخالص، السقف كما هو في سائر المنزل من خشب الأثل والخصف، وقد كنا نتعهد الحمام برعاية كاملة، نقدم له الماء والذرة والقمح، لكننا فوجئنا في أحد الأيام بأن مجموعة من القطط تسللت إلى الغرفة وفتكت بالحمام كله، كانت أرضية الغرفة غارقة في الدم والريش والحمام الميت، من يومها أقلعنا عن هذه الهواية، حيث توجه أخي لمرافقة الوالد إلى مواقع البناء والتعمير واخترت أنا تصيد طوابع البريد، ومراسلة الجنسين فهي هواية نظيفة وراقية وإن كانت لا تخلو من التكاليف!

وإلى جانب الغرف الثلاث كانت هناك غرفة صغيرة طليت أرضيتها بالأسمنت العزيز المنال في ذلك الوقت وكانت هذه الغرفة تستخدم للاستحمام، هذا الدور كان استخدامه محدوداً، فلا نصعد إليه إلا للنوم في ليالي الشتاء الطويلة، أما الصيف فله السطح الذي يمتد على مساحة المبنى، وفي الدور الأرضي ثلاث غرف المقعد والمجلس والدهليز وهذا ينطلق من أرضيته وحتى السماء منور كبير يضيء في النهار وينزل نسمات الهواء الشحيحة، لكننا هنا نفطر ونجلس وبجانب هذه الغرفة وتحت الدرج تحديداً يتم الطبخ وخبز الفطير وغسيل الأواني المنزلية، والمكان الوحيد الذي كان له باب هو المجلس ومساحته لا تتعدى العشرة أمتار ومع ذلك كان يقال إنه مجلس بحر! دلالة على سعته، وتطل على كل من المجلس والمقعد روشنين يشرفان على (الزوق) من ناحيته الجنوبية وهي الواجهة المفضلة فهي باتجاه غابات النخيل ومجرى السيل الكبير الذي يطلق عليه أبي جيده، وهذا السيل عندما يفيض كانت المدينة كلها تبتهج، وإن كانت الفرحة أحيانا تعادل مآسيه عندما يغرق محصولات المزارعين، حجز السيل الآن وأصبح ممره طريقاً ذي اتجاهين وفي الوسط هناك المنازل والمحلات التجارية فهل يعود السيل إلى مجراه يوما ما رغم السدود والحواجز؟، هذا السؤال جوهري، فالسيول عادة لا تترك مساراتها التي كونتها عبر مئات السنين بسهولة!

في ظل هكذا منازل كانت الحاجة تقضى إما على السطوح وإما في البرحات المنتشرة في كل مكان، وأما غسل الملابس القليلة فإنه يتم عبر مسيرات جماعية تقوم بها النساء إلى المزارع المجاورة مثل بلاد أبو العلا وعبدالعال والمرجلين والمراكشية وبلاد الأغا والصافية، هناك تغسل الملابس في مجاري الماء التي تغذي غابات النخيل والخضار على اختلاف أنواعه ومعه الورد الفل والنعناع والعطرة، حياة لم تكن سهلة، لكنني والحق يقال كنت أساهم أحياناً، كما يفعل أقراني، في العديد من أعمال النساء وأبرزها كي ملابسي، فالأناقة تحتاج أحياناً إلى بعض التعب!

شهد هذا المنزل الذي دخلناه في منتصف السبعينات الهجرية، العديد من المناسبات السعيدة، والعديد من المناسبات الحزينة، من الذكريات السعيدة دخولي في العام 1377هـ المدرسة الابتدائية، وسفر أخي الأكبر في بعثة خارجية، تركت صدى كبيرا في الزوق كله، أما المناسبات الحزينة، فأولها وفاة شقيقي حمزة في عامه الثاني، وقبل انتقالنا من هذا المنزل مباشرة أعلن والدي عن زواجه الثاني والأخير، وللمرة الأولى أرى أمي تبكي بحرارة لدخول ضرة عليها، ورغم ذلك فقد كنت في لحظة الفرح أقف لاستقبال المدعوين وتقديم الشاي والقهوة لهم، لقد غضبت كثيراً من أبي، لكنني لم أجرؤ على الاعتراض، عندما أخذني في المجلس وعرض علي الموضوع بوضوح قائلاً: أخويا مات يا حسين وعيال عمك صغار مين يرعاهم غير أمهم! والأم امرأة بحاجة لمن يرعاها ويصرف عليها، ماذا أعمل أتركها تتزوج الغريب ليضيع أبناء أخي!

قلت له: تزوج إذا كان ذلك يرضيك!

استرجع الآن هذه الشفافية من والدي وهذه الروح الحضارية التي تجعله يستشير ابناً له لم يتخطَّ المرحلة الابتدائية بعد، فاشعر بالاحترام لآبائنا، ممن علمتهم السنين ومجالسة الرجال وكثرة التجارب، ما لا يعرفه بعض من حملوا أرقى الشهادات...!

فاكس: 012054137


لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5137 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد