«الجزيرة» - نواف الفقير
لا يزال الخليجيون منقسمين حول جدوى بقاء عملاتهم مرتبطة بالدولار الأمريكي الذي وصل إلى أدنى مستوياته على الإطلاق عندما بلغ سعر صرفه نحو 1.53 مقابل اليورو، مما شكل ضغطاً كبيراً على العملات الخليجية التي تعيش في اقتصاد نمو مضاد لنظيره في الولايات المتحدة، فيرى بعض المسؤولين أن إبقاء الربط وتثبيت أسعار الصرف هو الأنسب حالياً وبخاصة أن عملة موحدة باتت قريبة البزوغ بعد تأكيد قادة دول الخليج في قمتهم العام الماضي بالدوحة إطلاقها في موعدها في العام 2010 وهو ما يستوجب توحيد السياسات النقدية والمالية في دول المجلس، وليس ذاك فحسب فبعضهم كالدكتور محمد الجاسر نائب محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي يرى أن استمرار الربط هو للمصلحة ويقول إننا في المملكة لا نملك اقتصاداً متنوعاً مثل أمريكا أو أوروبا حتى نقوم بتعويم العملة).
ومن الخليجيين وغيرهم من يخالف ذاك التوجه كون الاقتصادين الخليجي والأمريكي متناقضين في الوقت الحالي، ففي الوقت الذي يشهد الاقتصاد في الخليج نمواً كبيراً، يمر الاقتصاد في الولايات المتحدة بفترة ركود، كما أن سعر الفائدة في أمريكا يتجه للانخفاض وهو ما يلزم البنوك المركزية الخليجية باقتفاء أثر نظيرتها الأمريكية، ويرون في هذا تناقضاً اقتصادي كون الفترة الاقتصادية التي يمر بها الخليج تتطلب النظر في رفع أسعار الفائدة لا خفضها لامتصاص السيولة الكبيرة.
وفي الوقت الذي تؤكد (ساما) إبقاء ربط الريال بالدولار جاءت النصيحة من الداخل الأمريكي (اتركوا الدولار)، فرأى الرئيس السابق للاحتياطات الفيدرالية الأمريكية الدكتور ألان غرينسبان ضرورة تعويم الريال وبناء القرارات وفق المعطيات الاقتصادية، وهو ما اتخذته الكويت منتصف العام 2007 عندما فضلت سلة من العملات تربط بها عملاتها بعيدا عن الدولار.
(الجزيرة) استطلعت آراء بعض الاقتصاديين حول واقع العلاقة بين الريال والدولار ودعوات إعادة التقييم.
فك الربط أم الاستمرار
أوضح المصرفي فضل البوعينين أن أي قرار يتخذ حيال سعر صرف الريال أو مراجعة علاقته بالدولار يمكن أن يكون متأخرا جدا، على أساس أن مثل هذه الخطوة كان من المفترض أن تتخذ مع بداية العام 2007 وكان من المفترض أيضا أن يسبقها تغيير في مراكز الاستثمارات الحكومية الخارجية بالتحول من الدولار إلى اليورو أو أيا من العملات الأجنبية الأخرى منذ مطلع العام 2005 بعد أن بدأت بوادر أزمات الاقتصاد الأميركي، وعزم السلطات النقدية الفيدرالية على إضعاف الدولار مقابل العملات الأجنبية الأخرى، وزاد البوعينين: أعتقد أن القرار النقدي والاستثماري كان بعيدا عن الاستراتيجية الشاملة التي تضمن سلامة الاستثمارات الخارجية، واستقرار الريال في الأسواق، إضافة إلى ضبط معدلات التضخم ضمن الحدود المقبولة عالمياً.
وأشار البوعينين إلى أن تعويم الريال ليس بالقرار المناسب اتخاذه في مثل هذه الظروف على أساس أن سلبياته قد تفوق إيجابياته المتوقعة على المدى القصير، فتعويم الريال يعني حدوث الكثير من المشكلات كدخول الاقتصاد مرحلة الانحرافات الحادة التي قد تقوض جميع الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء، وأن التعويم يحتاج إلى اقتصاد منتج يعتمد في مخرجاته على الإنتاج الصناعي المتنوع الذي يمكن أن يشكل القاعدة الصلبة التي تُبنى عليها قوة الريال في الأسواق الحرة، واصفا فك ارتباط الريال كليا بالدولار في الوقت الذي تعتمد فيه المملكة على إيرادات النفط ليس بالقرار الحكيم.
واستثنى البوعينين فك الارتباط الجزئي كربط الريال بسلة عملات يمثل الدولار الأميركي النسبة الأكبر من مكوناتها، كما هو الحال مع الدينار الكويتي.
وقال إن مثل هذا الإجراء قد يكون الأنسب لهذه المرحلة، ويحقق التوافق مع السياسة النقدية الكويتية، وربما الخليجية على أساس أن الإمارات وقطر ربما تكونان في طريقهما لتطبيق سياسة نقدية مشابهة للسياسة النقدية في الكويت، مشيرا إلى أن الريال مقيم بأقل من قيمته العادلة نتيجة انخفاض الدولار القسري أمام العملات الأجنبية، وهو أمر يحتاج إلى إعادة تقييم مع الإبقاء على ربط الريال بالدولار الأميركي، داعيا إلى تشكيل محفظة عملات من إيرادات النفط الحالية والمستقبلية كي تتيح الخيارات المناسبة في حالة الرغبة في إعادة تشكيل السياسة النقدية وفق المتغيرات العالمية، متوقعا أن لا يستمر الدولار الضعيف على حاله إلى ما لا نهاية وهو أمر ينبغي أن يتنبه له فاتخاذ القرار غير المناسب في مثل هذه الأوقات قد يضاعف الخسائر، وقد يفقد الاقتصاد السعودي الكثير من الأموال التي أُريد لها النماء لا الخسارة.
أخطاء السياسة النقدية سيدفع الاقتصاد ثمنها باهظاً
بدوره قال عبدالحميد العمري عضو جمعية الاقتصاد السعودية أن الحالتين المتناقضتين التي يمر بهما كل من الاقتصاد السعودي المنتعش، والاقتصاد الأمريكي المتباطئ سنة بعد سنة، قد ألقت بظلالها القاتمة بصورةٍ أكبر على الطرف الأول ممثلاً بالاقتصاد السعودي؛ وذلك بسبب الارتباط المكلف يوماً بعد يوم بين الريال والدولار، فوفقاً لحالة الاقتصاد الكلية يتبع واضعي السياسات الاقتصادية (المالية والنقدية) سيناريوهات تأخذ بعين الاعتبار تلك الحالة، وفي حالة الاقتصاد السعودي الذي يمر بحالة انتعاش غير مسبوقة منذ 1999م إلى اليوم، يفترض بواضعي السياسة النقدية اللجوء إلى سياسة نقدية أكثر حزماً تستهدف رفع تكلفة التمويل للحد من التوسّع النقدي المضر بمستويات الأسعار! ولكن لوجود الارتباط مع الدولار الذي يمر اقتصاده بحالة تراجع منذ عدة سنوات، اضطر معها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى تخفيض سعر الفائدة على الدولار، من أجل إنعاش الاقتصاد الأمريكي وإخراجه من دورته الهابطة، وهذا أمرٌ يمكن استيعابه.
لكن في جانب اقتصادنا شهدنا آثاراً مؤلمة نتيجة اتباع سياستنا النقدية المحلية لحالة الدولار، على عكس ما يجب أن تتخذه إزاء حالة الانتعاش الاقتصادي، المتأتية بالدرجة الأولى من ارتفاع الإنفاق الحكومي؛ وبخاصة في اتجاه الإنفاق الاستثماري على العديد من المشاريع الرأسمالية العملاقة.
وتابع ترتب على ما سبق أن بدأت مستويات الأسعار في الارتفاع، ونمو متسارع في قيمة الأصول بسوق الأسهم المحلية التي لعبت دوراً كبيراً في امتصاص فوائض السيولة المحلية، وإن كنت أعتقد - والحديث للعمري- أنه أحد أخطاء السياسة النقدية التي دفع ثمنها باهظاً الاقتصاد والسوق، رأيناه في الانهيار الكبير الذي تعرضت له السوق المالية، وصلت تكاليفه الباهظة إلى أكثر من 2 تريليون ريال!.
وأضاف العمري اليوم نقف على قيمة ريال انخفض سعر صرفه الفعلي الحقيقي (قوته الشرائية) بأكثر من 23 في المائة، وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي حتى نوفمبر 2007م، وأتوقع قياساً على مواصلة مستوى التضخم لارتفاعه الذي وصل إلى 7 في المائة بنهاية يناير 2008، أن نسبة الانخفاض في سعر صرفه الفعلي الحقيقي وصل إلى 25.8 في المائة؛ أي أن ما تبقى لا يتجاوز 74.2 من قيمته الأساسية، ويشير إلى أن مؤشر سعر الصرف الفعلي الاسمي (متوسط سعر صرف العملة أمام سلة من العملات الدولية، بعد ترجيحها بوزن معين يعكس غالباً أهميتها في التجارة الدولية للبلد) مقوماً بالتغيرات النسبية في مؤشرات تكاليف المعيشة للبلد ودول أخرى ترتبط بعلاقات تجارية، يقيس القدرة التنافسية للبلد.! وعليه؛ إذا افترضنا أن السعودية وبقية دول مجلس التعاون قد ارتأت رفع سعر عملاتها أمام الدولار الأمريكي، على افتراض بقاء مسألة الارتباط كما هي بين تلك العملات من جهة والدولار الأمريكي من جهةٍ أخرى، فمن المتوقع أن لا يتجاوز هذا الرفع نسبة 25 في المائة! أي أن الدولار سيتم تسعيره بـ 3 ريالات بدلاً من 3.75 ريال، وهذا سعرٌ محتمل حتى لو قامت السعودية ودول مجلس التعاون بتغيير سياسة سعر صرفها إلى الارتباط بسلة عملات.
خسائر محتملة في الاستثمارات تفوق الـ300 مليار ريال
ولفت العمري إلى جانب سلبي آخر للدولار الضعيف يتمثل بالأصول والاستثمارات الخارجية العائدة للحكومة والقطاع الخاص؛ وبخاصة تلك المقيمة بالعملة الخضراء كالسندات وأذونات الخزانة الأمريكية، كونها ستشهد انخفاضاً كبيراً وخسائر ليست بالهينة، قياساً على ضخامة قيمتها التي تفوق 1.2 تريليون ريال!
تستأثر الحكومة بنحو 98 في المائة منها، وتابع (كما يبدو من أحدث نشرة نقدية شهرية لمؤسسة النقد في يناير الماضي، أن البنوك المحلية قد استشعرت هذا التوجه، واتجهت إلى خفض صافي أصولها الأجنبية من حدود 98 مليار ريال في أغسطس 2007م إلى أن وصلت إلى 20.2 مليار ريال فقط بنهاية يناير الماضي! وعليه فنحن نتحدث عن خسائر محتملة في قيمة الاستثمارات الأجنبية تفوق الـ300 مليار ريال إذا ما تمّت هذه الخطوة بتغيير الارتباط مع الدولار الأمريكي!
وهل ستلجأ تلك الجهات قبل اتخاذ هذا القرار الاستراتيجي إلى تغيير سلة استثماراتها الخارجية إلى بديلٍ آخر للدولار الأمريكي كاليورو مثلاً، وإن حدث مثل هذا الأمر فسيكون معروفاً للعالم، وهو ما سيؤكد الشكوك التي حامت حول التفكير بفك الارتباط مع الدولار أو تغييره، بما يعني زيادة حادة في المضاربات على الريال السعودي في أسواق العملات العالمية.
من جهته أشار عضو إدارة الجمعية السعودية للمحاسبة عبدالمجيد الفايز إلى وجود عقبات لا تستطيع معها السلطات النقدية في المملكة وربما في دول مجلس التعاون فك ارتباط عملاتها بالدولار الأمريكي منها إيرادات الدول الخليجية المقومة بالدولار وهي إيرادات كبيرة في حجمها وأي تغيير في سعر الصرف سيكون له تأثير بالغ على حجم تلك الإيرادات إذا قومت بالعملات المحلية.
كما أن هناك سبباً رئيساً آخر يعيق فك ارتباط الريال بالعملة الأمريكية أو تغيير سعر الصرف وهو الاستثمارات الحكومية واستثمارات القطاع الخاص بالعملة الأمريكية وهي استثمارات ضخمة وستتأثر قيمتها إذا ما تغير سعر صرف الريال مع العملة الأمريكية.
لافتا إلى إن ارتفاع حجم الإيرادات الناتج عن ضعف الدولار ليس إيجابيا لأن هناك سلبيات يتأثر بها الاقتصاد نتيجة لذلك منها ما قامت به دول مجلس التعاون وهو رفع قيمة الرواتب ودعم السلع المستوردة.
وأضاف الفايز بقوله (كل ما أرجوه أن تكون هذه الأزمة التي نمر بها جراء ارتباط عملتنا بالريال مفيدة في تعديل الخطط والاستراتيجيات المتعلقة بالسياسة النقدية والاستثمارية، فالاقتصاد الأمريكي يعاني اليوم من بوادر ركود واقتصادنا يحقق نسب نمو جديدة.
ونحن نحتاج إلى رفع الفائدة على القروض والاقتصاد الأمريكي يحتاج إلى خفضها، لذا ليس من الجيد لاقتصادنا الوطني الارتباط بالاقتصاد الأمريكي في ما له علاقة بالسياسة النقدية).