..وحين يكون التغيير حتماً مقضياً يكون من مقتضيات التناغم أن نعي متطلبات الخطاب الذي تقتضيه كل مرحلة، فتلاحق التحولات يستدعي خطاباً مرناً لا يني في قبول التبدل السريع الذي لا يمس الثوابت ولا محققات حضارة الانتماء. |
وكل من كان قدره أن يعيش مثل هذه المرحلة فإن عليه مواجهته بإمكانات متكافئة تستجيب للمستجد دون الذوبان فيه، ودون أن تفوت الفرص العابرة وكل تردد لا تحكمه رؤية، ولا تسيطر عليه عزمات في الوقت المناسب، يضع الإنسان على رصيف العابرين تمر به القوافل الجادة في المسير والسرى، ومتى لم تكن لدى الأمة استعدادات ذهنية تحسم فيها الخلاف، وتنهي التردد، وتحكم المسيرة فإنها ستؤخذ على غرة وأي ارتباك في مواجهة النوازل سيكون عقبة في طريق الخلوص من رواسب العادات والتقاليد التي تعمي وتصم. |
وأخطر شيء تواجهه الأمة الخلط بين العادات والعبادات والثوابت والمتغيرات وإشكالية النخب العربية أنها لم تتفق بعد على الثوابت والمسلمات ولا حتى على الأولويات، ومخاض التغيير في العالم الإسلامي محكوم بمقتضيات الشرع وفيه حد من حرية الاختيار، وإشكالية الثابت والمتحول عادت إلى المشهد الفكري بشكل حاد عندما أخرج (علي أحمد سعيد) المعروف ب(أدونيس) دراسته المنهجية (الثابت والمتحول.. بحث في الاتباع والإبداع عند العرب) بأجزائه الثلاثة التي تناولت: (الأصول) و(تأصيل الأصول) و(صدمة الحداثة). وإشكالية هذا الطرح أنه لا يقف عند التماس الثابت والمتحول بل لا يقف عند المنجز، ولكنه يعيد صياغته وفق منهج يرتضيه هو بلا مرجعية إذ إن معناه عنده أن الثابت ما يبني أحقيته على ماضٍ يفسره تفسيراً خاصاً ينفي ما سواه، وأن المتحول ما يرفض أحقية هذا الثابت، ومن ثم فإنه استثمر الصراع بين تلك الفئات، ولقد استحضر (البنية الدينية) التي تحكم الصراع، مؤكداً على تحييدها وممارسة الجدل بمعزل عن الدين، وهو ما لا يرتضيه الفكر السوي، وهذا التخلي المشين زاد في التأزيم، وأدخل الجدل في المنهج والموقف. |
ولو أن المتصدرين لعمليات التغيير وسعوا مساحات قراراتهم واستعانوا بتراثهم الفقهي والفكري وجدل الديني مع السياسي، ووقفوا على اختلاف الفقهاء والمفكرين وتباين المذاهب في مناهجها وأصولها وقواعدها، لوجدوا أن بإمكانهم التعايش والتعاذر فقضايا العبادات ليست محسومة في المذهب الواحد ولا بين مجتهد به، فضلاً عن حسمها بين مذهب وآخر. |
ولو قرأ الفرقون كتاب (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل) لمؤلفه (أبي الحسن المرادي) بمجلداته الاثني عشر لما كان أحدهم وجلاً من الخلاف حول سائر القضايا ف(المرادي) تقصى خلاف علماء المذهب فيما تناول (ابن قدامة) في كتابه (المغني) خلاف علماء المذاهب، ولهذا عد كتابه من كتب (الفقه المقارن)، ومتى روض الإنسان نفسه على قبول الاختلاف أصبحت لديه قابلية للتعامل مع حراك المشاهد، والاستعداد للتغيير لا يعني القبول المطلق، ولا يعني الإذعان لكل خطاب، وإنما يعني تفادي الصدام وتغليب الحوار، والمصيخ لجدل المشاهد تروعه اللجاجة ويهوله الاندفاع غير الموزون والاهتياج الأعزل على حد قول (الشنفرى) في (لاميته): |
ولست بعلٍ شره دون خيره |
أكف إذا ما رعته اهتاج أعزل |
فالمشاهد لا يعيق حراكها إلا الفارغون الذين يهتاجون أمام كل صوت، وكأنهم ممن (يحسبون كل صيحة عليهم). |
أما الممتلئون علماً وحكمة وتجربة فإنهم أحفل بالحوار، وأبعد الناس عن الصدام ومصادرة الحقوق. |
والعصر المسكون بالحراك بأمس الحاجة إلى ترويض الأفكار وإشاعة مبادئ التسامح وتفضيل الحوار على الصدام، والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا سيما أنها من مبادئ الإسلام، بل من مبادئ الكف عن الجدل والمراء وإن كان المجادل محقاً حتى ترتب على ذلك ضرر وعندما كانت (نجد) تمر بموجة من التشدد الذي حسمه (الملك عبد العزيز) في (معركة السبلة) كان المسؤول الذكي يخفي إسلامه ليعامله المتشددون على مقتضى قول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (6) سورة التوبة. |
وكتاب (السعوديون والحل الإسلامي) ل(محمد جلال كشك) يكشف عن جوانب كثيرة من ضعف الذهنية أمام طوفان التغيير، وإن كنا لا نتفق مع كثير من عروضه ونتائجه على الرغم من الاحتفاء به والتعويل عليه في كثير من المواقف. |
وأود هنا ألا يتصور البعض أن حديثي عن التغيير يمس الجانب الديني وحسب، وإن كان فقه الواقع يعتمد على القاعدة الفقهية: (لا ينكر تغيير الفتوى بتغيير الزمان والمكان). |
ومع هذا فإن أمتع شيء عند العلماء تنامي الحوار المعرفي البعيد عن التجهيل ومصادرة الحق في المراجعة والمساءلة، وأحد أئمة المذاهب - وأحسبه- (الشافعي) رحمه الله يقول: (قولنا صواب يحتمل الخطأ وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب). ولا يحتكر الحقيقة إلا الوحي القطعي الدلالة والثبوت، وهو النص البرهاني الذي لا اجتهاد معه، وما سوى ذلك فاجتهادات غير ملزمة إلا للعامي الذي لا يرقى إلى أهلية الاجتهاد. |
والأمة لكي تضبط إيقاعها وتنجو من التنازع المفشل والمذهب للريح لابد أن يكون لديها استعداد ذهني للتغيير وفيما يتعلق بفقه النوازل لابد أن تتوفر على شيئين: |
الأول: أن يفرق نخبها بين ما يحكمه النص، وما يحكمه الاجتهاد، فالنص: إما منطوق وإما مفهوم، والمنطوق ما يعبر عنه الأصوليون بقطعي الدلالة والثبوت، والمفهوم ما يعبرون عنه باحتمالي الدلالة، وهو مجال الاجتهاد وما عرف بمسائل الجمهور، وهو ما دون الإجماع لا يمثل إلا أقل التشريع وتصور الاختلاف في ظل هذه المفاهيم، يخفف من حدة التنازع، ويمكن النخب من الاستيعاب الذهني للتغيير. |
الثاني: العمل على تشكيل مرجعية دينية مطاعة تنهض بالحسم الجامع للشمل، بحيث لا يجد المتنازعون بداً من التسليم لها والتحرك من خلالها بعد نضوج القضايا واستكمال متطلبات البحث وفهم حرية التفكير والتعبير والتغيير خارج إطار المؤسسة والمرجعية يعني السقوط في مهادي الفوضوية، إذ يتحقق معه إعجاب كل ذي رأي برأيه، وهذا من أشراط الساعة، وما أخر بالأمة إلا تأليه الهوى وعقدة الأبوية، وما لا مناص فيه وعي ثقافة التغيير قبل ممارسته على حد: الحكم على الشيء فرع عن تصوره واستيعاب التنازع حول الأولويات والنوعيات والقدرة على الحسم عند مشارف النضوج، وفي التوجيه الحكيم: (فإذا عزمت فتوكل على الله) وهذا الأمر يأتي بعد الندب إلى التشاور، وقانون التشاور بمفهومه الإسلامي أن تتاح القضية الخاضعة للاجتهاد لتبادل الآراء، فإذا شارفت على النضوج لزم أن يكون هناك سلطة تملك العزم، وهو البت وحسم الخلاف بالجنوح إلى أفضل الآراء وصرف النظر عما سواه، وليس هناك أي غضاضة حين تجهض السلطة عشرات الآراء الفردية المفضولة وواجب الجميع التسليم، لأن تمسك كل مفكر برأيه يعني تعطيل التغيير، وعندئذ لا يكون لدينا استعداد ذهني للتغيير. |
|