(1) سألني سائل عن آخر مرة بكيت فيها، فقلت:
* ليس للبكاء عندي موعد في زمان أو مكان، حتى وإن تمنيته لأمر ما، والأعجب من هذا أن الدمعة لا تستجيب لي دائماً إما تمرّداً أو دلالاً، رغم شدة الحاجة لها أحياناً، وكأنها تتعاطف مع ظرفي الحزين، كي أبقي حزيناً، فتتوقف هي عند بوابة العين.. تأبى الخروج، لتغسل غبار الحزن في خاطري! ولذا، اغبط الأطفال أحياناً، لأن الدمع يستجيب لندائهم لأتفه الأسباب، فتصل (رسائلهم) إلى حيث يجب أن تصل، ويتحقق عبرها ما يريدون!
* أما نحن الكبار سناً، فإن بين بعضنا والدمع ألفة أو غربة أو عداء، وأنا أنتمي إلى الطيف الأوسط من هذا التصنيف، فالدمع عندي يجفو جفاء الغرباء.. قبل أن يستجيب لندائي ولو بعد حين! واضرب لذلك مثلين:
* فحين بلغني نبأ وفاة والدي رحمه الله، كنت خارج المملكة في شأن رسمي، وقد اهتزت أوتار قلبي شجنا، وتمنيت في تلك اللحظة (سقيا) من الدمع يمنحني صلابة وهدوءاً، ويبدد سحائب الحزن في خاطري، ثم عدت إلى المملكة.. واستقبلت العزاء، ولكن.. ظل الدمع حبيس العين شهرين تقريباً، حتى كان الفجر من ذات يوم في أواخر رمضان من العام نفسه، وكنت أمضي إجازة عيد الفطر المبارك في ضيافة سيدتي الوالدة رحمها الله بمدينة أبها. وفجأة زارني طيف سيدي الوالد رحمه الله، الذي لم تمض على وفاته سوى مدة قصيرة، هنا فقط.. هلّ الدمع بلا ميعاد وأنا غارق في الخشوع بين يدي الله.. واستمطرت لحظتئذ الدعاء بالرحمة والرضوان له ولآباء المسلمين وأمهاتهم!
أما المرة الأخرى التي زارني فيها الدمع فكانت عقب وفاة سيدتي الوالدة رحمها الله بيوم واحد، حين كنت في سرادق العزاء استقبل المواسين، وكنت أتظاهر بالجلد أمام المعزين حين هاتفني صديق من جدة معزّياً، ثم قال: (لقد قرأت للتو مرثيتك في أمك رحمها الله فحاصرني الدمع من كل صوب..) ثم انهار هو باكياً وأوقف الاتصال، هنا، تفجرت ينابيع الحزن في قلبي، فاستجابت لها عيناي بدمع غزير، واستبكيت بذلك بعض الحاضرين!
* تسألني بعد ذلك متى بكيت آخر مرة، وأقول: الدمع لا يؤرخ بزمان أو يوثق بمكان، لكن ظروف النفس الإنسانية تسوقه بلا موعد.. في أي زمان أو مكان!
(2)
* وسئلت مرة أين أضع نفسي بين موقفي التفاؤل والتشاؤم، فقلت:
* التفاؤل بوابة للرجاء، وهو (الخيط الأبيض) الذي يبشّر بميلاد الفجر، أما التشاؤم.. فأوله شقاء، وأوسطه ندم، وآخره خسارة! وأظن أن الخيار واضح فيما عناه واضع السؤال!
(3)
* وسئلت مرة، عن (موقع الحب) في حياتي، فقلت بلا تردد:
* أحمد الله أولاً أن حياتي لا تشكو من التصحر العاطفي، رغم موانئ الظمأ التي رسوت فيها عبر مشوار الطفولة، وأحمد الله ثانياً أن الحرمان من دفء القرب للوالدين لم يصادر مني القدرة على حب الناس، ثم أحمد الله ثالثاً.. أن وهبني حب الناس فيما يرضي الله!
* من جهة أخرى، الحب ليس العروة التي تربط الرجل بالمرأة فحسب، زوجاً وزوجة، رغم ضرورته الفعلية لنجاح (التوأمة) العاطفية بينهما، ولي من هذا الشأن حظ كبير والحمد لله، لكن الحب الذي أعنيه هنا تحديداً، هو شعور المرء بأنه ليس (جزيرة) وحده وسط محيط من الظلمات، لكنه (نخلة) عملاقة في واحة من العطاء.
* إما إن كان السائل يعني هنا (النبضات) الشعورية التي يمر بها المرء منا في صدر شبابه أو باكورة صباه، مما يسمى (حباً)، فتلك فترات تشبه (شمس الأصيل) لا تلبث أن تأوي إلى المغيب!
(4)
* وسئلت مرة عما إذا كان لدي سر أعلنه للقارئ لأول مرة، فقلت:
* مشوار حياة المرء منا مشحون بالأسرار، بعضها يسكن (خزائن) الذاكرة، وبعضها الآخر.. يذوب في لجة النسيان! وأزعم في هذا السياق أن الأصل في السر أن يبقى مكتوماً حتى يكشفه ظرف أو يعريه الزمن بالنسيان.. وهناك ضرب آخر من الأسرار لا يستحق الذكر ولا النسيان!