«الجزيرة» - منيرة المشخص
عندما نستمتع إلى كل من تغنى في لبنان وفي حبها وتغزل في جمالها يجعلنا نتساءل بحيرة إذا كانت لبنان حبيبة إلى قلوب أهلها لهذه الدرجة، إذا فمن يكرهها ويجعلها تعيش هذا الوضع المأساوي الحزين؟ من له مصلحة بأن تظل في غيبوبة عن عالم السلام والحب والأمان؟ بل من له مصلحة بأن يذبح لبنان من الوريد للوريد وبدم بارد؟ اغتيالات، تفجيرات اعتصامات وغيرها. مشاهد الدم وجثث القتلى أصبحت تتكرر بعدما اعتقد الجميع أن ذلك الزمن قد ولى إلى غير رجعة.
رفض الكثير منهم على تسمية رئيس لبلد لا رئيس لها منذ قرابة العام وتأجيل الاختيار أكثر من مرة.
القمة العربية القادمة في دمشق، ستعقد ولبنان غائب عن الحضور، ولكن هناك تساؤل نضيفه إلى سابقيه هل ستخرج القمة بقرارات تلامس الواقع اللبناني وتعيد له الطمأنينة؟ أما ستغطى الخلافات على السطح وينسى العرب واحدة من بين أهم القضايا العربية المصيرية؟ العديد من الأسئلة قابلتها عدة إجابات من عدد من المختصين في الشأن السياسي اللبناني وخرجنا منهم بهذه الآراء..بداية تحدث لنا فيصل جلول وهو كاتب وصحافي لبناني مقيم في فرنسا حيث أشار إلى ما اعتاد عليه بعضهم من أنهم يبحثون عمن يعلقونه عليه أخطاءهم وذلك بقوله: الجواب المبدئي عن السؤال يفترض أن المسؤول عن كل ما يقع في بلد ما هو قادة هذا البلد.
لكن توجد في لبنان ثقافة سياسية تسعى منذ الاستقلال عن فرنسا في القرن الماضي إلى تحميل الآخرين مسؤولية ما يدور داخل الأراضي اللبنانية.
فان وقعت أزمة حكومية يقال هذه من صنع الآخرين، وإن وقعت حرب أهلية يقال أيضا هذه من صنع الآخرين، وهناك كتاب شهير للأستاذ غسان تويني رئيس تحرير جريدة (النهار) اللبنانية يدافع عن هذه المقولة ويحظى بتأييد عدد كبير من المثقفين اللبنانيين.
ويضف جلول قائلا: لا أعرف بلداً واحداً في العالم يحمل غيره مسؤولية ما يدور فيه.
ولا أعرف بلداًُ واحداً في العالم غير محاط ب (آخرين) لذا فإن حسن التدبير هو الذي يتيح صياغة علاقات مع (الآخرين) تحفظ سيادة البلد وتتيح السيطرة على مقدراته وسوء التدبير هو الذي يستدرج (الآخرين) ويشركهم في صراعات لبنان الداخلية.
ربما حان الوقت لكي يقلع اللبنانيون عن اتهام الآخرين بالمسؤولية عما يدور على أراضيهم.
ويتطرق فيصل هنا إلى بداية ظهور ثقافة البحث عن المسؤول عن مشاكل لبنان من غير أهلها بقوله: يبقى التذكير أن هذه الثقافة التي تتنصل من مسؤولية الذات عما يحل بها تكونت خلال تأسيس دولة لبنان الكبير كوطن للمسيحيين واعتراض بلاد الشام على هذا التأسيس.
لذا كانت الدولة الوليدة تتظلم من الاعتراض عليها وترد مظالمها إلى محيطها، ومن بعد صارت هذه الثقافة لبنانية عامة تشمل شرائح من كل الطوائف اللبنانية.
ولعل التطور الأبرز الذي طرأ على هذه الثقافة تمثل في اتفاق الطائف الذي وضع حدا للحرب الأهلية اللبنانية وقد عين هذا الاتفاق إسرائيل كعدو واحد للبنان وبالتالي كان من المفترض أن ينتهي دور (الآخرين) في الصراعات الداخلية.
والحاصل أنه بعد احتلال العراق وانتشار الفوضى في الشرق الأوسط، وما وقع في لبنان من تطورات دراماتيكية كل ذلك أعاد الأمور إلى نقطة الصفر وعاد بعضهم ليردد مقولة مسؤولية (الآخرين) عما يدور على ارض لبنان.
ويشير الكاتب اللبناني فيصل جلول في نهاية رأيه إلى ما يجب على اللبنانيين فعله للخروج من هذا الوضع بقوله:هناك دائما من يسعى وسيسعى إلى تحقيق مصالحه، وليس مصالحك، وهذا ينطبق على الأفراد، كما ينطبق على الدول وإن كانت مصالح غير تقتضي حربا أهلية عندك فلن يرحمك وسيعمل على إيقاعها، وصراع المصالح هو أمر بديهي في العلاقات الدولية.
وفي الموضوع ذاته أوضح عقاب صقر كاتب لبناني مختص في الشأن اللبناني بأن هناك عوامل خارجية وداخلية ساهمت في تأزم الوضع اللبناني وذلك بقوله: ثمة العديد من العوامل الداخلية والخارجية المتشابكة التي أوصلت لبنان إلى المأزق الراهن.
فهناك عوامل بنيوية مرتبطة بالحالة الطائفية اللبنانية التي تؤدي إلى تحويل الخلافات السياسية إلى خلافات طائفية ومذهبية تحول دون تكريس منطق الدولة وسيادتها الكاملة.
إضافة إلى ذلك هناك عوامل خارجية تتسلل من خلال الطائفية، وتفرض نفسها على مختلف الأطراف في الداخل.
وأهم هذه العوامل اليوم هو التشكل المرحلي لإيران التي فتحت حرباً باردة مع أمريكا لمزاحمتها على النفوذ في الشرق الأوسط، وشرعت بسحب البساط من تحت أقدام الدول العربية في معظم قضايا الأمن القومي العربي من فلسطين إلى العراق إلى لبنان مستخدمة الورقة السورية.
وعليه فقد شكلت الساحة اللبنانية موطئ قدم أساسية لممارسة النفوذ الإيراني - السوري من خلال الإمساك شبه الكامل بالملف الشيعي بواسطة حزب الله وتحويله منطلقا لأمرين: الإمساك بزناد البندقية على الجبهة الجنوبية في مواجهة إسرائيل من أجل الضغط عليها ومن خلالها على الولايات المتحدة الأمريكية.
القبض على مفاصل الساحة السياسية اللبنانية والإمساك بزمام المبادرة سواء لجهة صناعة القرارات أو تعطيل السلطة من أجل الضغط على العالم العربي وتحديدا محور الاعتدال بقيادة المملكة العربية السعودية الأمر الذي أدى إلى مساع سعودية كبيرة لإرضاء إيران وسوريا من أجل حل المشكلة اللبنانية وغيرها من القضايا العربية وعلى رأسها فلسطين.
ويختلف صقر هنا مع فيصل جلول إلى أن هناك أيدي خارجية ساهمت في زلزلة كيان لبنان بقوله: لا يخفى على أحد أن المشكلة اللبنانية هي نتاج لقيام الخارج الإقليمي والدولي باستخدام الساحة وبعض الأطراف السياسية في معاركهم الكبرى على حساب المصالح الوطنية اللبنانية، ولعل محور المواجهة الإيراني السوري هو الأكثر قدرة على استخدام الورقة اللبنانية في مجال الصراع على النفوذ في الشرق الأوسط وبما يتناسب مع وجهة النظر الإيرانية حول الصراع العربي الإسرائيلي ورسم خريطة النفوذ في المنطقة التي تطمح فيها إيران إلى التحولّ إلى لاعب أساسي وشريك للولايات المتحدة في العالم العربي.
وعليه فلا مجال لخروج لبنان من أزمته الراهنة إلا من خلال مغادرته لمفردات الحرب الباردة الإيرانية الأمريكية والإفلات من المراوحة في دائرة الخروج السوري عن سقف الإجماع العربي.
ولأن هناك لقاء قادما للقمة وشكوكا قوية بعدم حضور فإن عقاب لا يرى أي أمل بإيجاد حل ينبثق من القمة لتعديل وضع لبنان إلا بوجود شرط فأوضح ذلك قائلا: لا يمكن للقمة العربية المقبلة أن تقدّم أي حل للبنان إلا إذا تم إيجاد مركز ثقل عربي في مواجهة مراكز النفوذ الدولية والإقليمية التي تجتاح المنطقة العربية بدءاً من وصول البوارج الأمريكية إلى السواحل اللبنانية مروراً باستباحة إسرائيل للدم العربي وتمادي المد الإيراني على مساحة القضايا العربية المركزية وصولا إلى الدخول التركي العسكري إلى قلب العراق بمباركة إيرانية استثنائية.
وسيبقى لبنان موضع تجاذب في قراره السيادي وأمنه الداخلي وأمن حدوده ما دامت القمم العربية تقتصر على كونها مجرّد اجتماعات فلكلورية تكرّس العجز العربي بالغياب العربي عن مجال التأثير والبقاء في حالة مراوحة بين الخيارات الدخيلة.
وحول الموضوع ذاته تحدث الإعلامي اللبناني غسان جواد والكاتب في جريدة اللواء اللبنانية الذي بين في بداية رأيه إلى تضامن قوى خارجية وداخلية ضد لبنان بقوله: المشكلة اللبنانية معقدة إلى درجة يحتاج المرء في حين يتكلم عنها للعودة إلى التاريخ دائما.
هناك حيث لطالما استقوت الجماعات الطائفية والحزبية بالخارج من أجل تأمين غلبة داخلية لطرف ضد الآخر.
أما ما يحدث في لبنان حاليا فمرده قوة العمل الخارجي والإقليمي تحديدا ضمن التركيبة الداخلية اللبنانية.
الأمر الذي يجعل لبنان ساحة مفتوحة لمداخلات وقضايا قد لا تكون لبنانية المضمون والمنشأ بالضرورة.
أما إذا دخلنا في صلب المشكلة القائمة الآن، فلا بد من الإشارة إلى ثقل التدخل السوري المباشر في لبنان وذلك من خلال النفوذ المحلي الذي تؤمنه جماعات لبنانية فاعلة ومؤثرة في الداخل اللبناني المعلق منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
ويشير هنا إلى تأجيل اختيار الرئيس ودور بعض الأطراف الايجابي والسلبي في ذلك بقوله: أما الرئاسة اللبنانية المؤجلة فتقع في صلب التجاذب القائم في لبنان الذي يتمثل في المحاور والاستقطابات الإقليمية والدولية الحادة.. والتي قد لا تلعب جميعا دورا سلبيا في الأزمة.
فمن جهة تقوم جهات إقليمية بتفريغ البلاد من مضمونها المؤسساتي.
تقوم دول أخرى كالمملكة العربية السعودية بدور إيجابي في محاولة الخروج من الأزمة.
غير أن هذا الدور يصطدم بجدول أعمال المحور الآخر الذي ينظر إلى لبنان بوصفه ساحة تفيده في المواجهات التي يطلقها مع المجتمع الدولي في منطقتنا.
وفي حين نتحدث عن لبنان (الساحة) لا يمكن الحديث عن رئاسة وحكومة ومجلس نيابي، وما إلى ذلك من مقومات الدولة الطبيعية السليمة.
وحول الحل في رأي غسان الذي هو في يد الجماعات اللبنانية موضح ذلك قائلا: لو كان الأمر متروكا للجماعات اللبنانية لخرجنا من الأزمة في غضون أيام على الأرجح.
غير أن ثمة ما يؤثر في حراك وقرارات بعض الأحزاب والجماعات الطائفية اللبنانية إلى درجة تمنع الحل وتجعله مرتبطا مباشرة بجميع الأزمات القائمة في المنطقة.
من العراق إلى فلسطين مرورا بملف إيران النووي وطموحاتها التوسعية ضمن ما يصطلح على تسميته أمريكا بالشرق الأوسط الكبير.
من هنا تصبح الاغتيالات والتفجيرات التي نتعرض إليها في لبنان جزءا من معركة مفتوحة ضد القوى الاستقلالية اللبنانية، ولغة أمنية تحل محل العجز السياسي الذي أصاب ويصيب الجهة المنفذة لهذه الاغتيالات التي باتت معروفة بحكم المنطق والسلوك وهوية الأشخاص المستهدفين.
وليست صدفة أن يكون كل من تمت تصفيته في لبنان جزءا من الحراك السيادي الرافض استخدام لبنان ساحة لصراعات الآخرين على أرضنا.
أما الحل المنطقي المفترض فيكون في ضعف النفوذ الإقليمي السلبي، وفي اتفاق اللبنانيين على تحييد لبنان عن صراعات المنطقة بقدر ما أمكن، فلا يبتعد لبنان العربي عن أجندة العمل العربي المشترك، ولا يكون ساحة لتحسين مواقع القوى الإقليمية ذات النزعات الصدامية.
الأمر الذي يحتاج مناعة داخلية غير متوفرة لدينا اليوم لأسباب كثيرة يطول ذكرها وبات جزء كبير منها معروفاً ومتداولاً.
وحول مدى إمكانية خروج قرار من القمة العربية يوحي بأمل ولو صغير في حل أزمة الوضع في لبنان قال غسان جواد في نهاية حديثه: الحق أن السؤال عن القمة المفترض انعقادها في دمشق أواخر الشهر الحالي، وعما في مقدورها أن تقدمه للبنان.
يحتاج إلى سؤال آخر من وحي الوضع العربي العام الذي يشكل لبنان حاليا المختبر الفعلي لقوته ومناعته وقدرته على دفع الأذى عن الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية.
والسؤال هو هل ستعقد القمة فعليا في ظل عدم الاتفاق العربي على الملفات الطارئة والحساسة؟؟ وهل سيقدم العرب لدمشق قمة عربية ناجحة في ظل موقفها البالغ السلبية في لبنان؟ الإجابة عن هذا التساؤل تتطلب وقتا وشيئا من الانتظار لما ستسفر عنه ضغوط اللحظة الأخيرة على دمشق من أجل دفعها إلى التعامل مع لبنان بوصفه دولة كاملة الاهلية، وليس مجرد ساحة أو ملف في سياق المواجهة التي تخوضها ضد الشرعية العربية والدولية لحساب طموحات بعض الدول الإقليمية غير العربية.