مؤتمر العنف الأسري: الأسباب والحلول، والذي عقد تحت رعاية شرفية لصاحبة السمو الشيخة سبيكة بنت إبراهيم آل خليفة، قرينة ملك مملكة البحرين، رئيسة المجلس الأعلى للمرأة في فترة 16-17 فبراير الحالي، أوقفتني ورقة أعادتها المحامية زينات عبد الرحمن المنصوري، بعنوان:
الإشكاليات القانونية وموقف الشريعة من العنف الأسري. ولأهمية موضوع العنف الأسري، والذي يعد بالفعل ظاهرة عالمية، رأينا إشراك القارىء والمسؤول معاً في قراءة هذه الورقة لعل فيها ما يفتح باب النقاش على مصراعيه للحد من العنف الأسري.
أولاً: تعريف العنف الأسري:
حيث تعرف منظمة الصحة العالمية العنف الأسري على أنه: (كل سلوك يصدر في إطار علاقة حميمة ويسبب أضراراً أو آلاماً جسيمة أو نفسية أو جنسية لأطراف تلك العلاقة) ومعنى ذلك أن العنف الأسري هو أي سلوك يتضمن أي شكل من أشكال إساءة المعاملة أو النفسية أو الجنسية موجه من أي شخص ضد الغير في إطار العلاقات الشخصية أو الأسرية أو هو العنف الذي يرتكبه الشخص تجاه غيره بما له من سلطة أو ولاية أو مسؤولية في الأسرة أو بسبب ما يعتبره علاقة إعالة أو كفالة أو تبعية معيشية، كالعنف الذي يمارسه الوالدان تجاه الأبناء أو الأبناء تجاه الآباء أو الأخوة تجاه الأخوات.
وتشير الدراسات إلى إن المرأة والطفل والكبير والعاجز ظلوا أكثر الناس تعرضاً للعنف الأسري وضحاياه، حيث إن أغلب حالات العنف التي تتعرض لها هذه الفئات تكون من داخل الأسرة أما أغلب حالات العنف التي يتعرض لها الرجال فتكون من خارج الأسرة.
ثانياً: أشكال العنف الأسري:
بناء على تقرير منظمة الصحة العالمية والذي تأخذ به المنظمات الحقوقية المعنية، فإن العنف الأسري يظهر في الأشكال التالية:
1- الاعتداء الجسدي.
2- أعمال العنف النفسي.
3- العنف الجنسي.
4- العنف الذي يشمل مختلف التصرفات السلطوية المستبدة كعزل الشريك.
ثالثاً: الإشكاليات الاجتماعية للتصدي للعنف الأسري:
إن أكبر إشكالية وتحدي أمام التصدي للعنف الأسري هو معرفة وإدراك الحدود الفاصلة بين الحرص على الاستقرار الأسري وضمان حقوق الإنسان في الأسرة. حيث تهدر حقوق ضحايا العنف باسم الحفاظ على الاستقرار الأسري، ويتم التضحية بمصالح المعنفين من النساء والأطفال، بل ويطلب منهم الصبر والتحمل من أجل استمرار الأسرة وعدم تفككها. وتصبح الضحية مسؤولية عن وضع غير عادل وتكون مطالبة بالتضحية ونكران الذات وإلا باتت في نظر الكثيرين وأقرب الناس إليها شخص أناني لا يكترث إلا لمصلحته الخاصة، فكم أهدرت المرأة الضحية حقوقاً لها للحفاظ على استقرار أسرتها وسكتت على ما تتعرض له من أذى في سبيل أبنائها، وكم من الأبناء سكتوا على ما يتعرضون له من ظلم خوفاً من إدانة المجتمع لهم إن شكوا آباءهم.
فالإشكالية لا تقع فيها المؤسسات التقليدية فقط، بل أن العديد من المؤسسات والجمعيات النسائية تسقط في هذا المحظور، عندما تطالب المرأة بالصبر والتضحية في سبيل الحفاظ على الإطار الأسري، وهي بذلك تتنازل عن حقوق المرأة الإنسان.
الإشكالية الأخرى تكمن في تقبل المجتمع لحالات ودرجات معينة من العنف الأسري، وتعتبره أمراً طبيعياً كالعنف الموجه من الزوج لزوجته أو من الوالدين لأبنائهم تحت تبرير التأديب، وفي أحسن الأحوال فإن أغلب حالات وأشكال العنف الأسري وإن كانت غير محبذة إلا أنها لا تصل إلى مرتبة تجريمها.
ثالثاً: موقف الشريعة الإسلامية من العنف الأسري:
هناك خلط كبير بين القيم المتوارثة والناتجة عن ما هو سائد في المجتمع من أفكار وعادات وبين ما جاءت به الشريعة الإسلامية من أحكام، وقد أدى هذا الخلط إلى إضفاء صبغة شرعية لتلك القيم والأفكار والعادات، واعتبارها حقوقاً مقررة بمقتضى الشريعة الإسلامية. إن الأساس الذي يرتكز عليه الفكر الإسلامي في حركة الواقع هو كما اتفق بعض فقهاء الإسلام (تحقيق العدل) لقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ }(25) سورة الحديد..
هو (حركة عدل وعلى الإنسان أن يتحمل مسؤولية تحقيق العدل كرسالة في كل تطلعاته وكل مواقفه لأن الله جعله الخليفة له في الأرض على أساس أن يجسد إرادة الله في الكون والعدل) وضمن هذا المفهوم العام فإنه: (إذا أردنا أن ندرس سلامة أي فتوى أو مفهوم أو أي نهج فلابد أن نضعه في موقعه من ميزان العدل فكلما كان منسجماً مع خط العدل فإنه يمثل الرسالة، وكلما ابتعد عن خط العدل فإنه يمثل انحرافاً عن خط الرسالة).
وإذا كان الحديث عن موقف الشريعة من العنف الأسري، فإن تناول الموضوع يجب أن يكون في إطار تحقيق أساس الفكر الإسلامي (العدل)، وأن نتتبع مقاصده في تحقيق (العدالة الإنسانية بين الناس أجمعين).. والأصل الثابت هنا هو أن مبادئ الشريعة الإسلامية تحث على نبذ العنف والاعتداء بكافة أشكاله ومصادره. وهناك العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي حرصت على تأكيد هذا المبدأ في العلاقات الإنسانية بشكل عام وفي العلاقات الأسرية على وجه الخصوص. ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة الآية 263: { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}، وقوله تعالى في سورة آل عمران الآية 159: { وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، وقوله في سورة الإسراء الآية 23: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}، وقوله تعالى في سورة النساء: {الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}.
والحديث عن العنف الأسري وموقف الشريعة الإسلامية منه لا يمكن أن يتم دون التعرض لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} (34) سورة النساء، حيث إنها فسرت بأنها سلطة تأديب شرعها الله تعالى للزوج عند نشوز زوجته، وأن له بذلك الحق في إلحاق أذى جسدي بها وإيلامها (ضربها)؛ كما اعتبرت القوانين والمحافظين عليه أن ضرب الزوج لزوجته أمر مشروع في صورته العامة.. وفي أحسن الأحوال جاءت الاجتهادات لتبرر الضرب الخفيف وغير المبرح وغيره من الأوصاف الخجولة التي تحاول تضيق المفهوم و (الحق الشرعي) دون أن تنكره وتتصدى له.. إن قراءة الآية الكريمة يجب أن تتم وتفهم في سياقها التاريخي، وباعتبار أنها كانت تحد مما هو سائد في عصر الجاهلية من اضطهاد للمرأة، بل كانت تشكل حالة متقدمة ومتحضرة جداً عليه، ومن ثم فإن التمسك بالنص في إطار حروفه دون ما كان يشكله من أمر في ذلك الوقت يفرغ الموضوع من المقاصد الحقيقية له، وإذ كانت الإنسانية ونحن منهم قد نبذت العنف بكافة أشكاله في كل العلاقات الإنسانية، وجرمته في العقوبات ناهيك عن التربية فإنني لا أرى أي ضير من أن تقف النساء اليوم للمطالبة بوقف تلك الرخصة نهائياً للرجل بل إنني أدعو له، ولا أدعي في ذلك الإفتاء أو الاجتهاد حيث أن واقع الحال للإنسانية وكما أشرت قد تجاوز مثل هذا الترخيص ومنعه وجرمه.
يذهب أحد الباحثين الإسلاميين في تفسير معنى هذه الآية بعد أن فسر كافة معانيها لغوياً أن: (أول أمر يجب أن نعرفه هو أن النص ليس نصاً في العقوبة وبالتالي يجب استبعاد مفهوم العقوبة أثناء فهم النص.
فالنص هو أسلوب علاج تربوي للوصول إلى الصواب،.. ويضيف في السياق أن عملية الضرب المقصود بها في الآية ليس ما هو شائع بين عوام الناس من الضرب باليد أو العصا إذ لو كان هذا المقصود لجاز للمرأة أن تضرب زوجها من باب المعاملة بالمثل اعتماداً على أن الشارع لم يفرق بين الذكر والأنثى ولم يجعل أحدهما وصياً على الآخر لمجرد جنسه، فالأصل في العلاقة بينهما هي المساواة والعدل مما يؤكد أن فعل واضربوهن يدل على اتخاذ موقف من الزوجة بشكل حازم كي يؤثر فيها ويرجعها إلى الصواب).. والضرب برأيه لا يعني في السياق اللغوي للآية وللمبادئ التي شرعها الإسلام الأذى الجسدي بل هو (المقاطعة الاجتماعية - واضربوهن) بعد (الموعظة الحسنة - فعظوهن) و(المقاطعة الجنسية - واهجروهن في المضاجع).
وبشكل عام لما كانت المقاصد هي ما يجب أن يؤخذ به في المعاملات، فإن تحميل الشريعة الإسلامية وزر استمرار العنف الأسري الصادر من الزوج ضد زوجته أو الآباء ضد أبنائهم في مجتمعاتنا وتقبله وعدم تجريمه، بحجة أن ممارسة مرتكبي هذا النوع من العنف يستمدون حقهم في ممارسته من سلطة التأديب الشرعية التي أعطيت للزوج أو للأب بات أمراً غير مقبول. فالشريعة الإسلامية ليست عاجزة عن إيجاد أسرة خالية من العنف ولكن من جعلوا أنفسهم أوصياء عليه وعلى تفسيره هم من عجزوا عن إدراك غاية الشريعة ومقاصدها ولم يتمكنوا من تلمسها في الحياة وما يمر به البشر من تطور.
خامساً: الوضع القانوني ودوره في تجريم العنف الأسري:
على الرغم من أن المشرع أعطى حماية عامة للأفراد ضد أشكال الاعتداء التي قد تمسهم في جسدهم وفي نفسهم، وعلى الرغم من أن القوانين، وخاصة قانون العقوبات، جرمت كافة أشكال الاعتداء والإيذاء بين الأفراد بغض النظر عن سنهم أو جنسهم أو قرابتهم ووضعت عقوبات ضد مرتكبيها، إلا أنها ما زالت غير ملائمة ومناسبة لخصوصية العنف الذي يقع بين أفراد الأسرة وآثار هذا العنف على ضحاياه عندما يصدر بحقهم ممن يستوجب فيهم أن يكونوا مصدراً لحمايته، كالعنف الذي يقع على الطفل من أبويه أو من الزوج على زوجته أو من الأبناء على الوالدين أو من أفراد الأسرة الأصحاء على المرضى و ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث يكون للعنف في هذه الحالة آثار سلبية مضاعفة على الضحايا، وكثيراً ما يكون تعرض الضحايا لهذا النوع من العنف متكرراً بحيث يصبحون أسرى له، وأسلوب تعامل لا يقف عند حد أو وضع معين بسبب وجود هؤلاء الأفراد في إطار العلاقة الأسرية وبسبب فروق السن والجنس بين أفرادها أو بسبب حاجة وتبعية بعضهم الاقتصادية والاجتماعية للآخر.
إلى جانب ذلك فإن هناك قيماً ومفاهيم تحاول شرعنة العنف الأسري، وإعطاء من يمارسه الحق بذلك تحت تبرير التأديب أو ممارسة الحق الشرعي، كما أن موقف المجتمع السلبي أو الرافض ضد من يقرر التمرد على من يتعرض له بالعنف من أفراد أسرته (كالأب أو الزوج أو الأخ الأكبر)، ويطلب القصاص وتقديمه للعدالة. بالإضافة إلى اعتبارات اجتماعية ونفسية ومعيشية أخرى في الموضوع تجعل التعامل مع قضايا العنف الأسري أمراً مختلفاً وتتطلب من ثم نظاماً خاصاً يستوعب تلك الأمور المحيطة به، ولابد من وضع أحكام خاصة لوصف جريمة العنف الأسري، وتحديد أركانها وأوصافها وحالاتها، وطريقة التبليغ عنها وحماية ضحاياها وملاحقة مرتكبيها جزائياً ومنعهم من تكرار جرائمهم، بالإضافة إلى وجود تدابير احترازية وإصلاحية تهدف حماية الأسرة دون التناول عن حقوق الضحايا. إذ أن قانون العقوبات لا يستطيع أن يستوعب كل تلك الخصوصية، ولا تستطيع أحكامه على معالجة جريمة العنف الأسري وفقاً لظروفها ومتطلباتها. فعلى الرغم من أننا لا ننكر الآثار الرادعة لعقوبة الحبس والغرامة كما هي في قانون العقوبات إلا أنها غير كافية بنظرنا، وهناك تدابير وقائية وأخرى احترازية وإصلاحية يجب أن يتصدى لها قانون حماية الأسرة بحيث يوجد حالة توازن قانونية وحقوقية إنسانية بين أفراد الأسرة بغض النظر عن فروق السن أو الجنس أو القوة أو التبعية أو الحاجة.
ولتقصي وتأكيد ذلك نقرأ في قانون العقوبات في كثير من البلدان التالي:
1- الحماية القانونية في قانون العقوبات:
لم يحظ العنف الأسري الذي يقع بين أفراد الأسرة مع ما يشكله من ظاهرة واسعة الانتشار أهميته خاصة لدى المشرع الجنائي، حيث إنه لم يتدخل بشكل خاص ومحدد في تأمين الحماية الجزائية للأزواج أو الأبناء أو الآباء عند تعرضهم لجريمة المساس بحياتهم وبسلامة بدنهم ضمن إطار العلاقة وصلة القرابة الأسرية، بل كان تدخله من خلال تأمين تلك الحماية للأفراد بشكل عام ودون أي تمييز في جنس الجاني أو المجني عليه.
فالقواعد العامة التي جاءت في مواد قانون العقوبات والتي ساوت بين الأفراد أو تلك التي راعت فيها المرأة على وجه الخصوص تخضع في أحيان كثيرة لنص قانون العقوبات التي تقول إنه (لا جريمة إذا وقع الفعل استعمالاً لحق مقرر بمقتضى القانون أو العف)، حيث إنها تفتح الباب أمام قبول بعض أشكال العنف الأسري باعتباره جزءاً من الأعراف المتفق عليها أو من الحقوق التي شرعها الدين للزوج على زوجته في تأديبها إن هي خرجت عن طاعته، أو حق الآباء في تأديب أبنائهم.
2- الحماية القانونية في أحكام الأسرة:
إلى جانب المسألة القانونية التي نظمتها أحكام قانون العقوبات، فإن المحاكم الشرعية تطلق الزوجة في حالة ثبوت تعرضها للضرر من قبل الزوج والعنف من أشكال الضرر. وإذا كان هذا الحكم الشرعي هو حق للمرأة إلا أن الزوجة غالباً ما تعاني من صعوبة في التمسك بهذا الحق، إذ هي تكون ملزمة بإثباته من خلال تقارير طبية تثبت وقوع العنف عليها أو شهود يشهدون على تعرضها له، ولما كانت حالات العنف الأسري تقع في أغلبها خلف أبواب موصدة فإن الزوجة تكون عاجزة عن إثبات الضرر الذي تتعرض له ويضيع حقها في متاهات الإجراءات القانونية غير المنصفة.
سادساً: أهمية تشريع قانون خاص ضد العنف الأسري:
على الرغم من أننا نتفق مع الرأي الذي يقول بأن القانون وحده غير كاف لتغيير السلوك الإنساني ومنع وقوع العنف الأسري، إلا أننا نؤمن بأن وجود القانون الذي يجرم العنف الأسري ويضع التدابير الاحترازية للوقاية منه والتصدي له ولمرتكبيه وعدم إفلاتهم من العقاب وإن لم ينفذ بحذافيره هو خطوة إلى الأمام وضرورة ملحة في ظل ما هو سائد من ثقافة مجتمعية تبرر العديد من حالات العنف الأسري وقيم تطلب الضحية بقبول ما يقع عليها من عنف وظلم في سبيل الحفاظ على استقرار عائلتها. وحتى يعلم مرتكبي جرائم العنف الأسري أنهم لا يمارسون حقاً مكتسباً بل هم يخرقون (الشريعة أو القانون) وأنهم معرضون للمساءلة والعقاب.
ولما كانت الخلاصة من استعراض القوانين النافذة الخاصة بتنظيم وتجريم أشكال العنف بشكل عام لا تكفي للحد من العنف الأسري أو معالجة، إذ لابد أن يكون هناك قانون خاص يعالج العنف الأسري بشكل يتلاءم مع الطبيعة الجرمية لتلك الأفعال وتكون العقوبات الرادعة ملائمة ومتناسبة معها وتتضمن أوامر وإجراءات ذات طابع اجتماعي بشكل يمكن معه تحقيق حماية أفضل ومعالجة أفضل للحالات والضحايا والمدانين أيضاً.
سابعاً: أهم السمات التي يجب أن تتوافر في القانون:
إن السمات الضرورية التي يجب أن يتسم بها قانون حماية الأسرة وتجريم العنف الأسري هي ابتعاده عن أي موروث يعطي أو يساهم في إضفاء أي شكل من أشكال المشروعية أو حتى القبول لأي شكل من أشكال العنف الأسري، ويجب أن يستند مثل هذا القانون للمرجعية (الدينية) والدولية الخاصة بحقوق الإنسان والتزاماتهم تجاه بعضه البعض وللاتفاقيات والأعراف الخاصة بمناهضة كافة أشكال العنف وخاصة اتفاقية مناهضة كافة أشكال العنف ضد النساء، والإعلان العالمي لمناهضة العنف ضد النساء واتفاقية حقوق الطفل.
ويجب أن يكون القانون المعني بالتصدي للعنف الأسري قادراً على توصيف الأفعال التي تشكل عنف أسري وتجرمه. وأن تتضمن أحكامه تدابير وقائية وتدابير احترازية تمنع أو تحد من وقوعه، وآليات إجرائية سليمة وعملية تتعلق بطريقة التبليغ عنه وحماية ضحاياه أثناء وبعد الإجراءات القضائية. كما يتطلب إجراءات قضائية خاصة وعقوبات مختلفة تتناسب مع مفهوم الجريمة وطبيعتها وتحقق مفهوم العقوبة والإصلاح، حيث قانون العقوبات ينص على عقوبة الحبس والغرامة فقط، وهي غير كافية للتصدي لجرائم العنف الأسري.
كما يجب أن يتعامل القانون مع جرائم العنف الأسري من منطلق الوقاية، وإعادة التأهيل باعتبارها ظاهرة اجتماعية إلى جانب كونها أعمال مجرمة تستوجب العقاب. وأن يتضمن بنوداً ذات أحكام احترازية وإصلاحية تهدف إلى الحد من وقوع الجريمة من الأساس (كالتوعية الإلزامية للمقدمين على الزواج، والموضوعات المدرسية). وبنوداً تهذيبية وإصلاحية تهدف إلى إصلاح الجاني وتمكينه العودة إلى الأسرة بمفاهيم تنبذ العنف. وأهمية هذا الأمر تتعلق بطبيعة العلاقة التي تربط الجاني والمجني عليه في جرائم العنف الأسري واستمرار تلك العلاقة في أغلب الحالات حتى بعد إيقاع العقوبة الرادعة على مرتكبيها كعلاقة الأم بأبنائها أو الزوجة بزوجها، وبنوداً رادعة تضمن عدم إفلات مرتكبي جرائم العنف الأسري من العقاب تحت أي مبرر أو سبب.
إلى جانب ذلك فإن القانون يجب أن يرتب حماية كاملة لضحايا العنف وحمايتهم من التعرض لمزيد من العنف بسبب التبليغ، إذ أننا لا نتوقع خيراً عندما يقرر الأبناء أو الزوجة ممارسة حقهم والتبليغ عن ما يتعرضون له من عنف.
كما يجب أن يتضمن القانون أحكاماً لتأهيل أفراد الأسرة للقضاء على العنف الأسري ويشمل ذلك تقديم المساعدة الاجتماعية والنفسية والتربوية والقانونية لهم بهدف الوقاية من أسباب العنف الأسري ثم إعادة التأهيل والمساعدة بعد وقوع حالة العنف.
خاتمة:
على الرغم من أننا نقر بعدم كفاية القوانين والتشريعات والأعراف المحلية والدولية بحد ذاتها فقط لمنع العنف الأسري إلا أن هذا لا يمنع من تأكيد دورها الهام في ذلك، خاصة في مجتمعاتنا الحديثة نسبياً، فالتشريعات والقوانين هي جوهر البناء المؤسسي للدولة، وهو أساس ضبط العلاقات المختلفة والمتعددة في المجتمع كافة، وفي بيان الحقوق والواجبات المترتبة عليها. ولما كانت مجتمعاتنا تعاين فيما يتعلق بشؤون المرأة والطفل وغيرها من موروث اجتماعي متغلغل في العمق يعززه التفسير الخاطئ للدين، وتعطيه الأعراف وبعض القوانين سمة الشرعية، فإن حاجتنا إلى تغيير الأنماط القانونية والتشريعات الراهنة بشكل يحقق مبدأ العدالة والمساواة الاجتماعية بين كافة أفراد وفئات المجتمع أمر ضروري وملح. ويلقي بمسؤوليته على كافة المهتمين بقضايا حقوق الإنسان من أجل وضع خطة متكاملة في سبيل إيجاد أسرة ومجتمع ينبذ العنف وفي سبيل أن يكون قادراً على التصدي له والتخلص منه.