تلقيت دعوة كريمة من مدير عام (مركز سلطان بن عبد العزيز للعلوم والتقنية) البروفيسور فالح السليمان لزيارة المركز والذي ُيرمز له اختصارا ب (سايتك)... وفي الأسبوع الماضي قمت بزيارة (سايتك)، والحقيقة أن ما رأيته أدهشني وجدد الأمل في نفسي بأنه يسعنا أن نقوم بأعمال نهضوية حقيقية على درجة كبيرة من الفعالية والإنتاجية، ولقد سعدت للغاية بتواجد العلامة الدكتور سلمان العودة في ذات الزيارة، حيث أضاف حضوره المميز نكهة خاصة ... سأروي لكم عن سايتك ما قد يدهشكم وذلك بحسب ما يتسع له المقام.
مركز سايتك لم يشأ أن يبدأ مشواره الحضاري من خلال البطولات الإعلامية، فآثر أن يجد لرسالته التنموية موضعاً صلباً ينطلق عليها قبل أن ينبس عنه الإعلام ببنت شفة؛ ليأتي بعد ذلك دور الآلة الإعلامية كجهاز متطور ينقل ما هو قائم وما هو متحقق فعلاً ولا يصنع شيئاً لا وجود له! وهذه نقطة نسجلها لسايتك مقابل البطولات (الكرتونية) التي نشاهدها لبعض الجهات عبر وسائل الإعلام و(تقارير الإنجاز) الفخمة المرصعة بالصور والإنجازات (الكمية)!
المثير في سايتك أنه قد أسس رسالته على حقائق عنيدة؛ كحقيقة حاجتنا الماسة للتخلص من (الوحشة النفسية) التي بيننا وبين العلوم والتقنية، فالكثير منا ينظر لها كما لو كانت شيئاً خارقاً لا نطيق فهم أسراره فضلاً عن المشاركة في صناعته أو تطويره، وهذا يعني أننا نحتاج إلى نوع من تطبيع علاقتنا مع العلوم والتقنية... علنا نفلح في جعل العلوم والتقنية جزءاً لا يتجزأ من حياتنا ... وفي إقناع أطفالنا بأن ما يتعلموه في الرياضيات والعلوم في مدارسهم من المبادئ والقوانين العلمية هو ما جعل الإنسان يبتكر كل ما يرونه من الآلات والمعدات والتقنيات والمعامل ... وفي تدعيم حب الاستطلاع والاستكشاف والقراءة لدى الأطفال وفئات المجتمع الأخرى في مجالاتها المختلفة، وفي جعلها سبيلاً لتنمية التفكير العلمي والإبداعي وتفعيل مهاراته في ميادين الحياة؛ فرسالة سايتك تتجسد في نشر مبادئ وأساسيات العلوم والإبداعات التقنية باتباع أحدث أساليب العرض وأمتعها، وذلك لكافة أفراد المجتمع، مع التركيز على الأطفال؛ من أجل توسيع مداركهم الذهنية وآفاقهم العلمية، وتشجيعهم على الاهتمام الدائم بمجالات العلوم ومسارات التقنية الحديثة، ليصبحوا قادرين على مواكبة المستجدات العلمية واستيعابها، ولإكسابهم القدرة والمهارة بل وقبل ذلك الاتجاهات النفسية التي تؤهلهم للرقي بأنفسهم ووطنهم إلى مستويات متميزة؛ ويهدف المركز بصورة أساسية إلى تثقيف أفراد المجتمع-خاصة الناشئة - بمبادئ العلوم وتطبيقاتها و شرحها و تبسيطها من خلال عرضها بأسلوب تفاعلي شيق يعتمد على التعليم بالترفيه والتعليم بالتجربة و المشاهدة للأفلام العلمية ونماذج المحاكاة التي من شأنها تعزيز فهم الطلاب والطالبات للمقررات التعليمية.
ولا أحسب أن الزائر سيصاب بغير الإعجاب بسايتك من حيث التصميم، ولا عجب فقد تم تصميم سايتك وفق أحدث النماذج العلمية في الدول المتقدمة، أي أنهم لم ينشغلوا باختراع العجلة مرة أخرى كما نفعل أحياناً، ويقع المركز على كورنيش مدينة الخبر على أرض مساحتها 21700 متر مربع، ومساحة المبنى 14100 متر مربع. يشتمل سايتك على سبع قاعات عرض رئيسية تتناول مختلف العلوم والتقنية، تضم أكثر من (350) معروضة علمية، ولكي ندرك نوع الرقي في التخطيط والتفكير والممارسة لسايتك نستعرض باختصار القاعات الموجودة وذلك كما يلي:
(1) القاعة التعريفية وتستهدف التعريف برسالة المركز وأهدافه ومعلومات أساسية عن المملكة ومحوريتها في العالم الإسلامي، كما تتضمن معلومات عن (مؤسسة سلطان بن عبدالعزيز آل سعود الخيرية) التي تكفلت - مشكورة - بتأسيس سايتك من الألف إلى الياء، كإسهام حضاري نقدره ونجله.
(2) قاعة الأرض والفضاء التي تتيح للزائر التعرف على بعض أسرار الكون وأجزائه والعلاقات المترابطة بين أجزائه والإطلاع على ملامح رائعة من جماله الخلاق وفق الأسس العلمية.
(3) قاعة الكائنات الحية وتركز على شرح الموضوعات الرئيسية المتعلقة بحياة الإنسان والكائنات الحية من الحيوان والنبات بما في ذلك كيفية عمل أجهزة الإنسان وكيفية المحافظة عليها للحصول على الصحة الكاملة، ومن ذلك أنهم يجعلون الطفل يشاهد وضع الأسنان في حالة إهمالها وعدم تنظيفها، مما يكرس صورة ذهنية لا تنمحي من عقلية الطفل، الأمر الذي يساعد على غرس السلوك المستهدف.
(4) قاعة بحارنا الجميلة وتحوي معلومات قيمة عن الحياة البحرية في كل من البحر الأحمر والخليج العربي كما تشمل على حوض رئيس قطره 7 متر وارتفاعه 4 متر وأحواض لأحياء بحرية ومعروضات لنباتات مائية، وهنا المزج بين العلم والطبيعة بقالب مشوق.
(5) قاعة غرائب العالم حيث تعرض بعض الظواهر الخارقة في الطبيعة من خلال استكشاف وتفعيل مبادئ الفيزياء والكيمياء والرياضيات وتتضمن معلومات مكثفة عن المغناطيس والكهرباء وتقنيات الطاقة الذرية والليزر والموجات الصوتية وقوانين الحركة.
(6) قاعة التقنية وتتمحور هذه القاعة حول دور العلوم في اكتشاف التقنيات وأثرها في تطوير حياتنا اليومية وتتعرض لمستقبل التقنية وتطورها في المملكة وكيف يمكن للتقنية أن تعيننا على التعاطي مع التحديات المستقبلية، وتتضمن معلومات عن التقنيات المستخدمة والتحديات التي تواجهنا في مجال المياه والزراعة وصناعة البتروكيماويات وصناعة المعلومات والنقل والإنسان الآلي وغيرها.
(7) واحة الاستشكاف وهي في غاية الذكاء والروعة حيث صممت لكي تتيح أجواء (الاستشكاف الماتع) للأطفال من سن 4-8 سنوات وسط أجواء آمنة، ويمكن لكل طفل أن يشبع حاجته في الاستشكاف والتعرف على قدراته ومهاراته، ويوجد في القاعة معروضات عن الزواحف والحيوانات الصحراوية وألعاب مجسمة وتركيبات مألوفة ومرايا الألعاب وأحواض مياه، بالإضافة إلى استكشاف الماضي من خلال خيمة الواحدة التراثية، ويمكن للطفل أن يشترك في بناء جدار وتمديد المياه.
ويحتوي سايتك على (القبة العلمية) التي تتسع لعدد 193 زائراً ويتم عرض الأفلام العملية باستخدام أجهزة IMAX وأجهزة DIGI STAR، وقد أشار الكتيب التعريفي لسايتك إلى أن هذه القبة هي الأولى على مستوى المملكة والشرق الأوسط . كما يتضمن سايتك (المرصد الفلكي) والذي يقبع في الركن الشمالي للمركز على قاعدة مخروطية الشكل تعلوها قبة تغطي جهاز التلسكوب المتطور الذي يمكن للزوار والمهتمين بعلوم الفلك أن يستخدموه وفق تعليمات محددة، كما يشتمل سايتك على الوحدة التعليمية، وقاعة المؤتمرات، وقاعة المعارض المؤقتة، والمرافق اللازمة لوحدات الإدارة والخدمات.
وقد ذكر لنا البروفيسور فالح السليمان في عرضه الشيق أن المركز حريص على نشر رسالة العلوم والتقنية وبالذات لدى الأطفال، ومن ذلك أن لديهم مركزاً مخصصاً للأطفال تتلخص رسالته في (تطوير مهارات الطفل وقدرته على التحليل والنقد والمبادرة وتفسير الظواهر وتنمية مهارات الحوار الإيجابي لتحقيق الإبداع)، ولتحقيق تلك الرسالة نجد أنهم يطرحون برامج متنوعة للأطفال، منها برنامج (صناعة الصابون) حيث حكى لنا البروفيسور السليمان كيف استطاع مركز الأطفال أن يجعل مجموعة من الأطفال تتفهم بعمق كيف تتم عملية صناعة الصابون، ليس ذلك فحسب بل مارس أولئك الأطفال العملية الصناعية وفق معاييرها الفنية وأنتجوا كميات لا بأس بها، ولم يكتف المركز بذلك حيث لم يتوقف عند هذا الحد، بل استمر المركز في إكسابهم مهارات التعريف بالمنتجات وكيفية تسويقها، وقد أفلح الأطفال فعلاً في تسويق منتجاتهم على الأقل لأمهاتهم كما يقول الدكتور فالح... كم هو رائع أن يصنع صغارنا الصابون في حين أننا ككبار قد لا نعرف مكوناته!
وبإزاء البرامج المخصصة للأطفال عنّ لي سؤال عن الرسوم التي يتقاضاها المركز لأنني خفت أن تكون عالية، مما يجعل الموهبة والإبداع محصوراً في أطفال (الطبقة الغنية) وهذه كارثة يجب عدم وقوعها؛ كارثة أخلاقية في أن يحتكر الأقوياء كل شيء لهم ولأولادهم، فردّ الدكتور السليمان علي بأن الرسوم معقولة جدا، حيث أنها بحدود 500 ريال شهريا، وهي رسوم على ما يبدو معقولة إلى حد كبير.
والجميل حقاً بأن المركز لم يغفل المرأة في معادلته التنموية حيث أقام (نادي سايتك للفتيات)، ويعرض ذلك المركز العديد من البرامج والدورات التدريبية، ومنها على سبيل المثال: برنامج TRIZ لحل المشكلات بطريقة إبداعية، حياتك من النمطية إلى الإبداع، قرارات ذكية لتطوير الذات، عجلة التوازن، أساليب استخدام مهارات التفكير في بيئة العمل، القواعد الأساسية لإعداد البحوث التربوية، وهنا أهمس في أذن سايتك بضرورة زيادة الأوقات المتاحة والبرامج المخصصة للفتيات، فهن جديرات بما هو أكثر مما تقدمونه وأنتم تملكون الكثير لهن ولغيرهن!
وقد نفذ سايتك العديد من البرامج المميزة لبعض الشرائح الاجتماعية في المجتمع، حيث أعد ونفذ المسابقة الوطنية الأولى لإعداد خطط المشاريع الصغيرة وهي مخصصة لفئات الشباب والشابات من 17-30 في خمس مراحل تبدأ بالتدريب وتنتهي بتكريم الفائزين، كما نفذ سايتك برنامجاً في السياقة النموذجية حيث استهدف تدريب مجموعة من المعلمين على فنون قيادة السيارة بإطارها النظامي والقيمي.
ويهمني التأكيد على أهمية تفعيل سايتك للتفكير المنظومي Systems Thinking في برامجها وأنشطتها من أجل تعظيم المنفعة المتحققة من خلال التعرف على (البعد الحرج) الذي يمكننا من إحداث تأثير أو نتيجة كبيرة في المنظومة، فالفائدة تتعاظم من خلال التعاطي الذكي مع ذلك البعد الحرج وفق آلية محكمة... ما أروع (الأفعال) الحضارية الحقيقية!
beraidi2@yahoo.com