Al Jazirah NewsPaper Friday  07/03/2008 G Issue 12944
الجمعة 29 صفر 1429   العدد  12944
منابع الفكر السَّلِيم 1-2
د. محمد بن سعد الشويعر

عندما يتسلّط بعض الصحفيين في عدوان آثم متعمَّد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- برسوم وكلام، ثم مسرحيات فيها التعدّي السافر على الذّات الإلهية يعتبرون ذلك حرّية فكرية، وعندما يخرجون تقريراً يسمّونه أمميّاً، مسلّطاً نحو المملكة والعالم الإسلامي، ليشرّعوا أموراً متناقضة مع أمر الله وأمر رسوله يسمّونه بضغوطهم ومندوبيهم المتتابعين لدى المسلمين بطلب إرخاء العنان للمرأة لتخوض في ميادين ليست من فطرتها، ولا تتلاءم مع مكانتها، يعتبرونه حرّيّة شخصية فكريّة.

وعندما يأتي داعية مسلم في ديارهم يدعو إلى دين الله الحقّ يحاربونه، ويحتجوّن بحجة أن هذا تدخل في شئوننا الخاصّة ولا يطيقون بقاءه، بل يقبضون عليه ويحاكمونه.. وغير هذا من الأمور المقلوبة، والتي اختلفت موازينها عندهم؛ مماّ يبرهن على أن الفكر عندهم يخضع للأهواء، بغضاً في الإسلام وأهله.. وهذا أسلوب جديد في التنصير، وحرب معلنة ضد دين الله الحقّ: الإسلام، الذي بدأوه بكتابهم: الفرقان الحقّ.. وهو باطل لا حق، رغم دعايتهم له، فقد قوبل من المسلمين بالاستهجان والردّود، هذا وغيره مماّ دفعني إلى أن أكتب عن الفكر السّليم ومصادره في مخاطبة وجدانيّة لأصحاب العقول المتفتِّحة لعل الله أن ينفع به، وأن يهدي به ضالّ المسلمين.. فأقول:

إن فكر الإنسان يرتبط وجدانياً على ظهر هذه الأرض، بخالقه الذي أوجده من العدم لمهمّة، وأهميَّته تأتي من إدراكه لما حوله.. لأنّ الفكر منذ خلق الله آدم وإلى اليوم والأبد يتجّدد مع الأحداث التي بالإنسان، فيما يتعلّق بحياته وموته، أمّا ما يتعلّق برابطته العقيدية بخالقه فمن الله، ويأتي عن طريق رسل الله إلى أممهم.

وكلماّ ارتبط الإنسان بالله: عقيدة وسلوكاً، كان فكره سليماً، ومأخذه جيَّداً، أما إذا فسدت العقيدة، وضعفت العلاقة بالله، وتعدّدت المآخذ التي يستقى منها، فإن فكر هذا الإنسان يسوء، واتجاهه يتعدّد؛ لأنه حائر.

ومن هنا ندرك الحكمة في بعث الرّسل حيث يرسلهم الله سبحانه لإصْلاح النَُّفوس وتزكية أفكارها، وتوجيهها لما فيه خيرها وسعادتها.. وأهمّ شيء يُصْلح الفكر ويُنَقِّي النفس صلاح العقيدة ومعرفة الله حقّ المعرفة، فهذا الأصل هو قاعدة الانطلاق الفكريّ الذي حَرصَتْ على ترسيخه الرّسل في دعوتهم لقومهم وتأكيدهم هذا الأمر، كما أوضحه الله سبحانه في القرآن الكريم على لسان كل نبي من أنبياء الله.

والجنس البشريّ تضعف رابطته الوجدانيّة وإيمانه العمليّ بالتَشريع الذي مِنْ عند الله تتنازعه الأفكار المتباينة ويكثر المنادون لتلك الأفكار، تدفعهم المطامع الذّاتية، وحبّ التّسلط لكن: عندما بلغ الفكر البشري في الفهم والإدْراك، وفي العقيدة والارتباط بالله، وُجداناً وعملاً، درجةً كبيرةً من السوء والتدنِّي والفساد جاء الفرج من الله سبحانه، بما امتنَّ به على أهل الأرض، وذلك ببعثه محمداً - صلى الله عليه وسلم - لينتشل البشرية من ظلمات الجاهلية إلى نور اليقين، ومن زيغ الفكر إلى رشاد العقل في المعتقد ومن تبعية الشيطان إلى الاحتماء بطاعة الله.

فكانت هذه البعثة تجديداً فكرياً وحواراً عقلانياً عقدياً، لإقناع الناس بهذه الرسالة التي ساقها الله لمن في الوجود من إنس وجن، حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها، وبما تحمله من خير وفائدة، لكلّ من يتقبَّل فكرها، ويرشده الله إلى فهمها، ومن ثمَّ اتباعها، فهي دعوة برفق ولين وحوار ونقاش لجذب الأفكار التي تنشد الحقيقة، وربط فكرها بالقناعة والمعرفة، كما حصل مع أهل الكتاب، بالتي هي أحسن، حتى ينجذبوا في فكرهم، ويعرفوا وجهة النظر السَّليمة، والدين الحقيقيّ أو تقوم الحُجة عليهم باعتبارهم من أصحاب الديانات الذين يقرأون الكتاب المنزل عليهم، كما قال سبحانه:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..} (46) سورة العنكبوت.

إن الفكر الإسلامي الذي بثَّه رسول الله في أهل مكة، وفي أقرب الناس إليه، ثم في الناس عامة في مجابهته للعقول، هو تغيير من الله جلّ وعلا، لأهْلِ الأرض في المعتقد أولاً، ثم في البنية الاجتماعية لأن في هذا المنهج الإسلامي تحولاً من حالة سيئة إلى حالة حسنة، وتوجيهاً لهم بأن يحملوا زعامة خيريّة في الأمم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وبأي سبب استحقوا هذه المنزلة:{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} (110) سورة آل عمران.

ونعني بالحالة الحسنة ما يدعو إليه الفكر السليم المستمد من شرع الله الذي ارتضاه لعباده، وفق مصدري التشريع في الإسلام: كتاب الله وسنة رسوله، فهما يقودان الفكر، ومعه العقل لما ينفع الإنسان، ويرشدانه لما فيه صلاحه، وفلاح المجتمع بأسره.

فما كان يأخذه حسناً فهو حسن ويدعو إلى كلّ ما هو حسن، وينهى عن ضدهّ، وبالنظرة والتعمُّق تتضح جذور ذلك ونتائجه؛ لأن الفكر الناضج هو ما يوجه للعمل الصالح الذي يضمن للنفس البشرية السعادة في الدارين، وللمجتمع الأمْنَ والهدوء وهناءة البال، مع الابتعاد عن القلق والحيرة.

ولذا يعتبر الفكر الإسلامي خير ذخيرة، وخير موجه للسعادة؛ لأنه يسوق النُّفوس برغبة وانجذاب للأعمال المفيدة لذاتها ولغيرها.

ومن يتتبَّع التشريع الإسلامي وينظر إليه بعمق الفاحص، والمدرك للأسرار، وراء الحكمة، سواء في العبادات أو المعاملات أو الأحوال الشخصية أوالعلاقات بين الأفراد والجماعات يلمس أثر ذلك في سعادة المجتمع، وترابط أجزائه.

ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لا شك أنه في قمة الفكر السليم، فهماً ودعوة وتوجيهاً، بل وفي مكان الصدارة من الفكر الإسلامي- قدوة وعملاً - مع كونه المعلم الأول للبشرية في ذلك بصدق وإخلاص؛ لذا كان الفكر الإسلامي هو خير الأفكار وأسلمها لأنه يوضح بالقناعة الحسية والمادية حقيقة دين الإسلام الذي لا يقبل الله من البشر سواه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (85) سورة آل عمران.

والفكر السليم هو حقيقة التدين، كما أن الارتباط الوجداني لا يكون مقبولاً إلا به.

والتدين المقبول عند الله لا يرسخ إلا بقناعة فكرية، ومن هنا فقد اختص الله نبيه محمداً، بخيرية البشر وفضلهم وأمر بطاعته واتباع ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) سورة الحشر.

ولا يحمل لواء الخيرية وزعامة التوجيه للخير إلا من تتمثل فيه الخيرية بحذافيرها؛ فكان رسول الله خيراً ساقه الله للبشرية، وألهمه الحكمة وعلَّمه ما لم يكن يعلم وأدبه فأحْسَنَ تأديبه، وجعل خُلقه القرآن، ونسبه ومَحْتَدَهُ خياراً مِنُ خيار، كما قال في تسلسل الخيار من آدم حتى اختاره الله من بني هاشم، في حديث رواه ابن عمر أنه قال: (إنّ الله اختار خَلْقَهُ، فاختار منهم آدم، ثم اختار من بني آدم العرب، ثم اختارني من العرب، فلم أزل من خيار من خيار، ألا وإنّ من أحبّ العرب فبُحبِّي أحبَّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم) رواه الطبراني.

فسيرته - صلى الله عليه وسلم- العطرة فكر توجيهيٌّ لمن يريد أن يتأسَّى به، ويترسَّم خطاه وأفعاله الكريمة، في معالجة كلِّ أمْرٍ يطرأ، لأنه فكر عملي لمنْ يريد أن يقتبس ويدقق في عمق النتيجة، وفي جميع أقواله عليه الصلاة والسلام التي يوجه بها أصحابه تشريع في ما يجب أن يفعلوه في دينهم أو يبتعدوا عنه من عمل، فهو فكر عميق لما يجب أن تسترشد به النفوس المطمئنة، لأنَّ في ذلك كله خيرها وسعادتها، واستقامة أحوالها وسلامة جوهرها.

ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استرشد في فكره، الذي بعثه الله به لبثه في الأمة، لما جاء في كتاب الله الكريم من مخاطبة للعقول، ودعوة للأفئدة لتتعمق في الفهم، وتتمكن في حقيقة الإدراك، ومن ثم تتبصر في الأمور وعواقبها؛ حيث دعا الأمة المسلمة لما يرشدها، وينقذها من المهالك، ومتى أخذت بذلك تمسَّكت بالفكر السليم الذي ينقذها من الشرور والويلات، وهذا ما يحرص عليه الإسلام في التصدي للأفكار البشرية وما فيها من أخطاء شنيعة.

ومن ذلك ندرك بعضاً من الأسرار التي وراء كلِّ تشريع إسلاميٍّ، عَلِمهُ من عَلِمه، وجَهِله من جهله، في المخاطبة التي جاءت في القرآن الكريم للعقول ودعوتها للتفكر، وللقلوب وترغيبها في حسن الاستجابة، وتسميتها بما يدل على مفهومها الراسخ، من صفات ترتبط بالعقل الفكر: كأولي الألباب، قوم يتفكرون، قوم يعقلون، أولي النهى، وغير هذا من النعوت الكثيرة التي زادت على مائتي حالة في القرآن الكريم.

وقد أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المهمة: حيث لم يترك خيراً إلا دل أمته عليه، ووضحه لأصحابه، الذين صدقوا في التبليغ بعده، ولا شراً إلا حذرها منه، كما وضح بعض الصحابة ذلك لأحد اليهود بأنه عليه الصلاة والسلام لم يترك طائراً يطير إلا ومعه علم وتوجيه منه.

هدم منارة الإسكندرية

قال المسعودي في تاريخه: أنفذ ملك الروم في خلافة الوليد بن عبدالملك خادماً من خواص خدمه ذا رأي ودهاء سراً، وجاء مستأمناً إلى بعض الثغور، فورد بآلة حسنة ومعه جماعة، فلما وصل إلى الوليد أخبره أنه من خواص الملك، وأنه أراد قتله لموجدةٍ وحالٍ بلغته عنه لم يكن لها أصل، فاستوحش منه، ورغب في الإسلام، فأسلم على يد الوليد، وتقرّب من قلبه، فأخبره ناصحاً عن دفائن استخرجها له من بلاد دمشق وغيرها، بكتب كانت معه، فيها صفات تلك الدفائن، فلما رأى الوليد تلك الأموال، والجواهر شرهت نفسه، واستحكم طمعه، فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين إن ها هنا أموالاً وجواهر ودفائن للملوك، فسأله الوليد عن الخبر، فقال: تحت منارة الإسكندرية، أموال الأرض، وذلك أن الإسكندر احتوى على الأموال والجواهر التي كانت لشداد بن عاد، وملوك العرب بمصر والشام، فبنى لها الآزاج تحت الأرض وقنطر لها الأقباء والقناطر والسراديب، وأودعها تلك الذخائر، من العين والورق والجواهر وبنى فوق ذلك هذه المنارة، وكان طولها في الهواء ألف ذراع، والمرآة على علوها،(والديادبة) جلوس حولها، فإذا نظروا إلى العدو في البحر في ضوء تلك المرآة، صوتوا بمن قرب منهم، ونصبوا ونشروا أعلاماً فيراها من بَعُدَ منهم، فيحذّر الناس وينذر البلد، فلا يكون للعدوّ عليهم سبيل.

فبعث الوليد مع الخادم بجيش وأناس من ثقاته وخواصه، فهدم نصف المنارة من أعلاها، وأزيلت المرآة فضجَّ الناس من أهل الإسكندرية وغيرها، وعلموا أنها مكيدة وحيلة في أمرها، ولما علم الرومي استفاضة ذلك وأنه سينمى إلى الوليد وأنه قد بلغ ما يحتاج إليه هرب في الليل في مركب كان قد أعده، وواطأ قوماً على ذلك من أمره فتمت حيلته وكان الإسكندر من مخافته على هذه المنارة قد حرص بأن لا يخلو ما حولها من الناس بنوع من الجواهر أودعها البحر، والجوهر مطلوب في كل عصر في معدنه براً أو بحراً، ليكون المكان معموراً بالناس باستمرار، ومنها: الأشبار والجشم والباقلمون الملوّن من أخضر وأحمر وأصفر تتخذ منه فصوص الخواتم.

وقد بقيت المنارة على ما ذكرنا إلى هذا الوقت، وهو (عام 332هـ) والمسعودي توفي في عام (346هـ).

(مروج الذهب1: 417-418)



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5068 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد