أبدأ بتعقيب الأخت (وسيلة) على مقالة الأسبوع الماضي، وتذمرها من مالك المنزل الذي يصر على إخراجها وأبنائها من منزلها (المهلهل) ما لم تقبل بدفع 30000 ريال بدلاً من 18000 إيجاراً للعام الواحد. ويبدو أن الأخت وسيلة مسئولة عن الصرف على أبنائها وإيوائهم وحمايتهم في مجتمع ٍ يفترض أن يكون أفراده أكثر تراحماً في مثل هذه الظروف القاسية.
مشكلة الأخت (وسيلة) يُمكن إسقاطها على كثير من الأسر السعودية التي باتت تعاني من ارتفاع أسعار الشقق والمنازل المستأجرة، وعدم مقدرتها على الإيفاء بمتطلبات الملاك التعجيزية. ستون في المائة من المواطنين الذين لا يمتلكون منازلهم الخاصة، بحسب الدراسات شبه الرسمية، باتوا أكثر حاجة للمساعدة المباشرة من خلال الأنظمة والتشريعات والحلول العملية التي تساعدهم في التعايش مع موجة الغلاء و(سرطان التضخم).
لا يمكن لمحدودي الدخل، وأصحاب الدخول الثابتة التعايش مع الارتفاعات المفاجئة في تكلفة المعيشة، خاصة السكن، بمعزل عن مساعدة الآخرين. (سرطان التضخم) أدى إلى رفع أسعار السلع والخدمات، وأضعف القوة الشرائية للرواتب والأجور وأقحم المواطنين في أزمة غير مسبوقة، لم تشهدها البلاد حتى في أحلك ظروفها الاقتصادية التي شهدت انخفاضاً حاداً في أسعار النفط وحجم الإنتاج وما أعقبها من حروب إقليمية.
أزمة التضخم ربما كانت المتسببة في ظهور أزمات اقتصادية وتموينية أخرى على أساس أن (سرطان التضخم) لا يمكنه العيش والتمدد إلا بمهاجمة الأعضاء السليمة، وعلى هذا يمكن أن نرجع أسباب الكثير من أزماتنا الاقتصادية والاجتماعية إلى عامل (التضخم) الذي أدى إلى خلخلة الاقتصاد، المجتمع، والقيم الإنسانية، وأثر سلباً في معيشة المواطنين، الطبقة الوسطى والفقيرة على وجه الخصوص.
كثير من الانتقادات توجه إلى وزارة التجارة نتيجة تقصيرها في الجانب الرقابي وضبط الأسواق، وهي انتقادات محقة في بعض جوانبها، إلا أنه من الظلم تحميل وزارة التجارة جريرة الغلاء الفاحش الذي استشرى في قطاعات الاقتصاد. ويجب أن نعترف أن الجانب الرقابي الذي تمثله وزارة التجارة هو سبب من أسباب تفاقم المشكلة لا في خلقها من العدم. على أساس أن السياستين المالية والنقدية هما المسؤولتان عن معدلات التضخم المحلية. وبهذا يفترض أن توجه انتقادات المنتقدين إلى وزارة المالية، ومؤسسة النقد العربي السعودي على أساس أنهما المعنيتان بأزمة التضخم الحالية.
مؤسسة النقد بشرت في أكثر من مناسبة بداية العام 2007 بسيطرتها على معدلات التضخم، وأن الوضع غير مقلق البتة، ثم بدأت في تغيير خطابها الإعلامي بعد أن بدأت معدلات التضخم بالارتفاع القياسي. في التاسع من شهر مايو 2007 أشارت المؤسسة إلى أن ( معدلات التضخم في البلاد مازالت تحت السيطرة عند 3 في المائة)، ثم عادت لتؤكد على (أنها لا تستطيع التنبؤ في الوقت الراهن عن مستقبل التضخم في السعودية والمعدلات التي سيصل إليها)؛ كان ذلك في 11 سبتمبر 2007. سجل التضخم رقماً غير مسبوق في العام 2007 بعد أن قفز إلى 6.5 في المائة بنهاية شهر ديسمبر الماضي ثم 7 في المائة بنهاية شهر يناير من العام 2008.
محافظ النقد الأستاذ حمد السياري أشار إلى موضوع التضخم في منتدى جدة الاقتصادي بقوله: (سيتراجع التضخم في النصف الثاني من هذا العام بعد أن يصل إلى ذروته في النصف الأول)، دون أن يحدد أرقام الذروة، ونسبة التراجع المتوقعة التي ربطها بأرقام العام 2007 وهي أرقام متغيرة بدأت من 3 وانتهت بـ 6.5 في المائة!!.
الأستاذ السياري أشار إلى أهم أدوات السياسة المالية في السيطرة على معدلات التضخم حين قال: (إن مواجهة التضخم تتطلب خفض الإنفاق وخنق الاستثمار، لكن مثل هذا يتعارض مع الأولوية الحكومية)، وكأنه أراد أن يحمل الإنفاق الحكومي جريرة التضخم في الوقت الذي دافع فيه عن المسئولين عن السياسة المالية بأنهم يطبقون أولوية الحكومة في دعم التنمية الشاملة، التي يفترض فيها التخفيف من أعباء المواطنين لا أن تثقل عليهم. الإنفاق الحكومي غير المجدول هو المتسبب الرئيس في ارتفاع معدلات التضخم ولو أضفنا إلى ذلك مشكلة السياسة النقدية التي لم تستطع يوماً التنبؤ بمعدلات التضخم المتوقعة فإننا سنخلص إلى تحميل وزارة المالية ومؤسسة النقد مسؤولية تفاقم أزمة التضخم الحالية. إذاً يفترض أن تتقاسم وزارتا المالية، التجارة، ومؤسسة النقد مسؤولية أزمة التضخم الحالية دون النظر إلى المسببات العالمية التي يوجزها غالبية المسئولين ب(الغلاء العالمي). عدم كفاءة الإستراتيجيتين المالية، والنقدية لسنوات مضت هي التي ساعدت في زيادة حجم أزمة التضخم، في الوقت الذي تسبب فيه ضعف الرقابة بزيادة حدة الغلاء. توقف المشروعات التنموية الضخمة لعقد من الزمان بسبب عدم قدرة الجهات المسئولة عن توفير البدائل المناسبة للتمويل الحكومي المباشر هي التي أدت إلى تراكم مشروعات التنمية الملحة ثم طرحها مجتمعة بطريقة فاقت مقدرة الاقتصاد والمجتمع على تحمل تبعاتها. عدم جدولة المشروعات الضخمة، وتأخير تنفيذ بعضها تسبب في زيادة حدة الأزمة وتأثيرها على المواطنين. كما أن المشروعات الحالية المتسببة في إذكاء نار التضخم لم تحقق نجاحا يذكر في خفض نسبة البطالة بين المواطنين، كما يروج له البعض. إستراتيجية السياسة النقدية لم تكن على المستوى الذي يمكنها من تخفيف أزمة انخفاض الدولار وأثر ذلك على الريال السعودي. أذكر أنني كتبت مع مطلع العام الماضي عن تحول بعض صناديق الاستثمار الأميركية المقومة بالدولار إلى العملة الأوربية حماية لأصولها من التآكل. وأضفت أيضا أن بعض الصناديق الأميركية اتخذت قرار التحول إلى اليورو منذ مطلع العام 2003 مما جعلها بعيدة نسبيا عن أزمة انخفاض الدولار في الأسواق العالمية. وهنا تظهر نجاعة القرار الإستراتيجي وأهمية التنبؤ بالمستقبل واتخاذ القرارات المصيرية وفق الرؤية الإستراتيجية الشاملة.
*****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب 7741 ثم أرسلها إلى الكود 82244
f.albuainain@hotmail.com