لم أستغرب كثيراً أن يسألني مدير لإدارة المحاسبة يعمل بإحدى الشركات بمسمى المدير المالي عن كيفية اعتبار بيع الوحدات السكنية على الخريطة نوعاً من أنواع التمويل - كما ذكرت ذلك في المقالة السابقة - في حين أن البيع على الخريطة - بحسب رأيه - لا يعدو كونه عرضاً ترويجياً يحفز ويمكّن العملاء المستهدفين من شراء المناسب من الوحدات السكنية، لم أستغرب ذلك أبداً في ظل .....
.... تخلف الفكر والإدارة المالية في كثير من المنشآت الخاصة فضلاً عن الحكومية وغير الربحية.
الخلط بين المحاسبة والإدارة المالية أحد أسباب هذا التخلف حيث يعتقد الكثير بأن المحاسبة تعني الإدارة المالية رغم الفرق الشاسع بينهما، ذلك الخلط هو الذي دعا بعض الشركات إلى توظيف محاسبين كمسيرين لإدارة الشركة ومتخذين لقرارات مصيرية تؤثر قطعاً في مسيرة الشركة ومصائر مساهميها وكانت النتائج كارثية لدى البعض وستر الله على البعض الآخر حينما تمَّ تصحيح الوضع واختير بدلاً من هؤلاء المحاسبين أشخاص أكثر مناسبة للعمل.. وأنا هنا لا أطعن في نزاهتهم، لكن أطعن (قطعاً) في مقدرتهم التخطيطية وفهمهم لأبسط أسس دورة المال الاقتصادية وسبل تعظيم الربح.. فالمحاسب ينظر إلى ما لديه فقط ويبحث عن السبل والوسائل للحفاظ عليها.. أما المدير المالي (الاقتصادي) فهو ينظر ويبحث عن ما ليس لديه ويجعله لديه.
لقد رأينا المحاسبين الذين يجهلون أبسط مبادئ الإدارة المالية يحاولون إثبات أنفسهم كمديرين ماليين بإبراز قدراتهم على توفير السيولة من خلال عرقلة الدفعات المستحقة للآخرين وضغط المصروفات دون سياسات ترشيدية سليمة، واستثمار تلك السيولة المغتصبة بأدوات مالية تقليدية لتحقيق أرباح استثمارية حتى وإن أخل ذلك بأداء الشركة بشكل كبير وأضعف علاقتها بشركائها مقدمي الخدمات من موردين ومستشارين وغيرهم.
الإدارة المالية التي من المفروض أن تدعم إدارة الشركة لرفع إنتاجيتها لتحقيق أرباح مكررة متنامية بشكل مستدام من خلال رفع كفاءة المال المتاح، أصبحت وبسبب تخلفها في الكثير من الشركات تلعب دور المعيق لأنها تسعى لتوفير السيولة وتنميتها دون أخذ إنتاجية الشركة بعين الاعتبار، حتى بتنا نرى الكثير من مديري الشركات يعانون أشد المعاناة من مديريهم الماليين الذين لا همّ لهم سوى تأخير الدفعات المالية لمستحقيها مما انعكس سلباً على إنتاجية الشركة وأرباحها.
انخفاض إنتاجية أي شركة أو نمو إنتاجيتها بمعدلات دون المأمول دليل على سوء الأداء، وسوء الأداء من أكبر أسباب إحجام الجهات التمويلية أياً كان نوعها عن تمويل مشاريع الشركة على اعتبار أن تلك الشركة غير قادرة على الوفاء بوعودها من ناحية الإنتاج والتسويق وتحقيق الإيرادات بوقتها لتغطية الدين وتكلفته حسب المواعيد المتفق عليها، والعكس صحيح بطبيعة الحال فكلما كانت الشركة حسنة الأداء وتحقق معدلات نمو كبير في الإنتاجية والأرباح وتفي بوعودها كلما أقبلت وتنافست الجهات التمويلية على تمويل مشاريعها بشكل مستمر وبشروط ميسرة وهو ما يدخل الشركة في متتالية نمو بمرور الوقت بخلاف الحالة الأولى.
وإذا أدركنا أن حسن الأداء يُعتبر عنصراً هاماً من عناصر تحفيز الجهات التمويلية لتمويل الشركة لعرفنا أن المدير المالي المحترف هو ذلك المدير الذي يبذل جهوداً كبيرة لدفع الشركة للوفاء بالتزاماتها ووعودها، ليتمكن من توفير التمويل اللازم لمشاريعها الإنتاجية في الوقت المناسب دون عوائق، لكن أين المدير المالي المحترف الذي يعرف بأن دفع الحقوق المالية لشركاء الشركة في الوقت المناسب ليتمكنوا من تقديم أجود الخدمات دون تأخير أحد أهم عوامل نجاح الشركة في رفع قدراتها الإنتاجية والوفاء بالتزاماتها.
نعم أين هذا المدير المالي النادر الذي يحمل فكراً مالياً متميزاً ومعرفة اقتصادية وإدارية عميقة وقدرة على تحليل معطيات الحاضر واستشراف متغيرات الغد وربط بعضها ببعض ليضع إدارة الشركة أمام صورة واضحة ليستطيعوا اتخاذ القرار المالي الأمثل في ظل عولمة مالية واقتصادية تداخلت فيها المتغيرات المحلية والعالمية بما ينعكس إيجاباً أو سلباً على وضع الشركة المالي وقدرتها على تمويل مشاريعها بأقل صيغ التمويل تكلفة.
أين هذا المدير المالي القادر على سبر أسرار أسواق المال المحلية والعالمية ومؤسساتها فضلاً عن المؤسسات المالية من بنوك وشركات تمويل وتقسيط ليحدد أفضل البدائل التمويلية (صيغة تمويل، جهة تمويل) في كل ظرف من الظروف ليتوجه لتوفير التمويل اللازم من خلال الجهة الأمثل بالصيغة الأفضل، المدير الذي يسمو فوق الوسائل الأسهل والأسوأ ذات الآثار السلبية المدمرة على الشركة على المديين المتوسط والبعيد كما يفعل الكثير من مديرينا الماليين المزعومين الذين لا يرون غير تأخير مستحقات الشركاء وسيلة لتوفير السيولة وتنميتها من خلال أدوات مالية أقل من تقليدية.
وللمعلومية فإن عدم وجود مديرين ماليين محترفين في الكثير من الشركات جعلها تراوح في مكانها وتعاني من إخفاقات مالية بعضها قاتل أخرج بعض شركاتنا من السوق، وبعضها مؤلم جعل الكثير من شركاتنا تحقق خسائر متراكمة أو أرباحاً أقل مما يحققه محل تموينات يُدار من قِبل عمالة غير نظامية رغم أن بعضها شركات مليارية، وهو ما جعل المساهمين في هذه الشركات في حيرة من أمرهم، فهم لا يرون إلا الخسائر أو الأرباح القليلة التي لا يمكن توزيعها على أي منهم، حيث تقوم تلك الشركات بترحيلها لتغطية تكاليف مشاريعها ولسنوات طويلة دون حسيب أو رقيب.
والسؤال الأهم من وجهة نظري، لماذا ندرة المديرين الماليين المحترفين في شركاتنا رغم تطوير السوق المالية في بلادنا خصوصاً بعد تأسيس هيئة السوق المالية وتأسيس الكثير من الشركات المالية فضلاً عن دخول مؤسسات مالية عالمية للعمل في بلادنا؟.. والإجابة لأن الكثير من المستثمرين والملاّك وأعضاء مجالس الإدارات ما زالوا ينظرون إلى الإدارة المالية نظرة دونية رغم أن سر نجاح وفشل الكثير من الشركات يكمن في مدى إدراكها لأهمية الإدارة المالية المحترفة المحفزة لبناء مؤسسي قوي للشركة من ناحية، والقادرة على رفع كفاءة الأموال المتاحة للشركة لتحقيق أعلى درجات الإنتاجية وأفضل العوائد من ناحية ثانية، وإلى أن يدرك القائمون على الكثير من الشركات مكانة وأهمية الإدارة المالية نسأل الله أن يتدارك الكثير من شركاتنا برحمته.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب 7842 ثم أرسلها إلى الكود 82244
alakil@hotmail.com