حبَّبَ إليَّ بعض الزملاء تناول هذا الموضوع، بعد إحساسه بتبلّد الشارع الاجتماعي، وعدم مبالاته، وتحفز النخبة عبر الكلمة الملتهبة، واجتياح المدنية الغربية متوسلة بآلياتها ومؤسساتها،
ومراوحة الأطراف المستهدفة بين الصدمة والصدام، وحين يتملك الأمة ذلك الشعور، ويستبد بها التناقض لا يكون لديها الاستعداد الذهني، المتفادي لاختلاط المفاهيم، واضطراب المواقف، وتناحر الفرقاء، وتنازع الأطياف، والوقوع في فوضى التعبير والتفكير، وتفادت الأطياف في الوعي والاستيعاب والتفاعل.
ولقد كنت من قبل أفكر في مدى انصياع المستهدف لقانون التغيير وتوفره على محققاته على الوجه الذي يواكب الرؤية الحضارية الحصيفة لسائر الأشياء الجديد منها والتليد، دون التعرض لقفزات تبعد النجعة، أو قعود يفوت الفرص، وحين تكون أشياء الأمة فسمة بين المندفعين بلا حساب والقاعدين بدون مبررات تضمحل الأمة وأشياؤها، وتلك نتائج فقد الاستعداد لمواجهة المستجدات التي تفرضها طبيعة الحياة، أو يستدرجها الراغبون دون استعداد متكافئ ولا حاجة ملحة.
ومن المسلمات أن أي مواجهة غير متوقعة للتغيير ستكون لها تبعات قد لا ترحب لها صدور المدفوعين والمندفعين، فالناس ليسوا كأسنان المشط في قبول المستجد وقوة الاحتمال وحسن الظن والتفاؤل، وليسوا سواء في القدرة على ممارسة المحدثات بدون اضطراب في الأمزجة وتوجس خيفة من مفارقة المألوف، وما عصيت الرسل إلا بعقدة الأبوية (إنا وجدنا آباءنا على أمة..).
وكثير من الذين يتغنون بالتغيير لا يحسنون حلحلة مسلماتهم الخاطئة قيد أنملة، والخوض في متاهات التغيير كما الركض في المفازات بدون علامات يُهتدى بها، والأمة منهية عن إلقاء نفسها في التهلكة، والمحاذير التي تبدو كالسمادير لا تثني العزمات، ولكنها تثبط المرتابين والمترددين. فالقادرون على مواجهة المتغيرات ملزمون بالاستعداد لتلقي النوازل، والأمة السوية لا يتصدر لنوازلها وملماتها إلا المقتدرون من أبنائها، وحب السلامة يكشف الثغور لمن لا يحسن تصريف الأمور ومن أشراط الساعة أن يوسد الأمر إلى غير أهله وأن تتكلم الرويبضة واعتزال المقتدرين يخلي الأجواء للغوغاء التي تخلط الأوراق وتربك المسيرة، والسلطة أي سلطة لا تحقق وجودها إلا بالتدخل السريع في الوقت المناسب لحسم الأمور وإيقاف التدهور. ومن تصور الحرية في غياب السلطة أو في تغيبها فقد وقع في الفوضوية، وممارسة السلطة لحقها المشروع تحقيق فعلي للحرية المنشودة كما يراها الفكر السياسي الإسلامي والمُصْميات في جلب النظريات تحت أي دعوى، والوقوع في التلفيق المخل بالأهلية، وهو داء المشاهد كلها، ومن تصور أن الاستعداد للتغيير هو القبول المطلق فقد زاد في التأزيم، وتلك مفارقات عجيبة وغريبة، والمعادلة الأصعب أن توفق بين العناصر والأطراف، بين القضية من حيث هي حدث والأطراف المستهدفين، والتغيير الذي نعني لا يقف عند حد التجديد العفوي الذي تقتضيه السنن الكونية، وإنما هو المتمثل بالانقطاع التام عما هو مألوف.
ومهما استدرجنا بالتباهي والتشبع والادعاء والتزكية وأخذنا بالغفلة عما نحن فيه وعما نحن بحاجة إليه فإن الخلوص من آثار ذلك لا يكون إلا بالمصارحة والشفافية، ومثل هذه المواقف كالشهادة: (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) وحين يكون التغيير حتما فإن علينا ترويض أنفسنا للقبول به، والتوفر على ثقافته والاستعداد للتفاعل معه، ومراقبة الذات المتفاعلة والممانعة، وغير المتحرف أو المتحيز، وأي استرخاء أو تردد يصيبان المستهدفين يؤديان إلى تعثر المشروع الذي يتغنى به الجميع، ولن يتم ضبط الإيقاع إلا بتحديد مجالاته وأمدائه ومشروعيته وإدراك القدر الممكن والمستطاع، إذ ليست كل رغبة ممكنة، كما أنه ليس كل مباح ممكن، وغير المدركين لعواقب الأمور يقفون حيث يكون فقه الأحكام، فما كان مباحاً يوجبون الأخذ به بلا تقدير وبلا توقيت وبلا معرفة بالإمكانات، وهو محظور يسوون فيه بين القادر والمضطر، والمجربون يستصحبون فقه الأحكام ولكنهم يستبطنون فقه الواقع والإمكانات، بحيث لا يمارسون المباح غير الممكن ولا يقعدون عن اللوازب، وليس هناك مجتمع يخلو من مباحات يجب تأجيلها وأخرى يجب اهتبالها، وكم هو الفرق بين ممنوع لحرمته الذاتية ومحظور لحرمته الغيرية، ومباح ممكن التنفيذ ومباح غير ممكن التنفيذ، ومحرم بنص وممنوع لمصلحة، ومحكوم باجتهاد يعذر فيه المخالف ويباح فيه الاختيار ويلزم الترجيح.
ولو ضربنا مثلاً ب(قيادة المرأة للسيارة) بوصفها واحدة من مفردات التغيير الذي تشعبت فيه الآراء واحتدمت المشاعر واستفحلت العداوات وتبودلت فيه أقذع الاتهامات لوجدنا أن السلطة التشريعية في حدود صلاحياتها قد منعته ناظرة فيه إلى المصلحة العامة، ولم تحرمه، إذ ليس من حقها أن تحرم ما لم يرد نص بتحريمه، فالتحريم من الافتراء على الله، وأي سلطة تشريعية مخولة من حقها أن تمنع المباح حين تكون المصلحة العامة مع المنع، فالتشريع غالباً ما يكون مرتبطاً بالتغليب، إذ ليس هناك سر محض ولا خير محض فالنفع الأقل لا يسوغ الحل كالخمر، ولن تتوفر السلطة على حقوقها حتى يكون في مقدورها المفاضلة بين الخيارات وفض النزاعات بين المندفعين والمتحفظين، فمنع القيادة أو التمكين منها خياران متاحان والقضية برمتها مفردة من مفردات التغيير، والجدل حولها يجب أن يستحضر أحقية السلطات الثلاث: السياسية والدينية والمجتمعية، والذين يتولون التبشير بالتغيير يجب أن يعوا مثل ذلك؛ بحيث يتداولون القضايا بوصفها متاحة للجدل وليست محرمة على أحد، وما لم يكن لدينا استعداد ذهني لقبول الاختلاف المعتبر والمشروع فإننا سنفقد أهلية الاستعداد للتغيير، وهو بعض ما نراه بادياً على كثير من الوجوه، فالمندفعون وراء بوارق التغيير لا يقبلون بالحدود والضوابط والخيارات، والممانعون المتخوفون لا يتيحون الفرصة للحوار وتمكين الفرقاء من إنضاج القضايا المختلف حولها. على أن هناك ظاهرتين خطيرتين تتداولهما المشاهد دون تحديد دقيق:
- القول بالتعددية دون ضوابط.
- والقول بعدم احتكار الحق بدون استثناء.
والأمة الإسلامية محكومة بالنص، ودور العقل في استثمار فضاءات هذا النص، وليس له حق المخالفة، فالتعددية متاحة، ولكنها في النهاية مردودة إلى النص، واحتكار الحق لا يمتلكه مجتهد، وإنما يمتلكه النص البرهاني القطعي الدلالة والثبوت. وكل تغيير لا يحترم هذه الضوابط فهو رد على صاحبه. والجدل متاح لكل مقتدر ولكن الحسم والحزم من حق السلطة التي من واجبها توخي المصلحة العامة، وتغييب السلطة باسم حرية التعبير والتفكير إضاعة للجهد والوقت وتعميق للفرقة والتشرذم، والمرجعية هي التي تحسم الخلاف وتنهي الجدل عند اللحظة المناسبة، ولا يضير المجتهد أن يسلم في النهاية للأغلبية التي تتحراها السلطة في كل قراراتها. على أن الحكم لا يكون بالضرورة للأغلبية (إن الحكم إلا لله) وإنما يستأنس باستبعاد اجتماع الأمة على ضلال. والمطالب بمنع المرأة من قيادة السيارة يتناغم مع ميل السلطات الثلاث و من ثم لا يجوز المساس بأهليته ولا بأحقيته في الطرح والإصرار على الرأي المخالف والمطالب بتمكين المرأة من قيادة السيارة حين يعرض وجهة نظره ولا يفرضها وحين يقف حيث تكون الحيثيات والمبررات التي يراها، دون النيل من الطرف الآخر، ودون استعداء مؤسسات حقوق الإنسان أو عدِّ ذلك مصادرة لحقوق المرأة يكون واعياً لضوابط التغيير والتفرغ لتصفية السمعة والتصنيف والتجريم والتجهيل من كل الأطراف المتصارعة حول مفردات التغيير ضعف في ثقافة التغيير، وهذه السجايا إشكاليات تضاف إلى الخلل في استيعاب المرحلة المرتهنة لحتمية التغيير. وبوادر الصدام واحتدام المشاعر لا تبشر بخير ولا تمكن السلطة من ترشيد التحرك باتجاه الأجدى والأهدى والرصد للجدل والتمكين من إنضاج القضايا بروح الثقة والتقدير المتبادلين بين الفرقاء.
وأنا هنا لست معنياً بالوقوعات العابرة بقدر عنايتي بالتفكير وأسلوب التعامل مع حراك المشاهد كلها وتحسس مخاضاتها والرصد لأصداء العراك بين أطيافها للتوفر على أرضية مناسبة لممارسة كل الأطراف لحقوقها المشروعة.
يتبع