تاريخ بلادنا تاريخ حافل غني بعظماء أجلاء سواء أكانوا من الرجال أم النساء الذين قدموا الكثير الكثير من العطاء لوطنهم وشعبهم وجيلهم، ذلك الجيل الذي أناروا له أعلام الحرية والكرامة والبذل والعطاء، منهم من أثبت جدارته في السياسة، ومنهم من برز في الإدارة، ومنهم من علا واعتلى في الوزارة، فلله درهم.
لقد فتح لهم التاريخ أبوابه على مصارعها، ولهث الدارسون التاريخيون وراء إنجازاتهم وإبداعاتهم، فهم عظماء بحق وحقيقة، والتاريخ على مدى الأزمنة والعصور لا يسطره ويخلده إلا العظماء من الناس. ويحوي تاريخنا السعودي المعاصر أعلاماً نبهاء نبغاء، اختفوا خلف....
*****
....المناصب وعملوا بصمت وإخلاص وإبداع، فبنوا مجداً حظي به التاريخ، وأسسوا معالم انتفع بها الناس، فكانوا عمالقة في قاماتهم، جبابرة في صناعاتهم، منطقيين فيما يوكل إليهم من مهام، وحدث أن جاء الله برجل عظيم خلّد ذكرهم، ورسم مجدهم ورأى في الترجمة لهم وفاء بحق، ومأثرة بذكر، فهو كمن دخل رياضاً ناضرة واختار منها ما جاد واستجاد.
إن هذا الكتاب الذي أسلفت لك - أيها القارئ الكريم - اسمه واسم مؤلفه قد جمع لنا كوكبة من الأعلام في مختلف الفنون، فهم بهذه الثروة يعز علينا أن نجدهم في مصدر آخر.
إن هذا الكتاب ليس من سبيل كتب التراجم كتاريخ بغداد للخطيب البغدادي وسير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، أو وفيات الأعيان لابن خلكان، أو الوافي بالوفيات للصفدي، أو فوات الوفيات للكتبي.. إنه من نوع آخر؛ فهو تاريخ حي شاهد على طموحات وإنجازات المترجَم لهم، فهو يترجم لأفذاذ أحياء صنعوا التاريخ وغيروا مسيرته في صالح أمتهم وأوطانهم، ومع ذلك فهم يكرهون الأضواء، ولا يميلون إلى الشهرة والأنواء، فقيّد الله لهم سعادة الدكتور الفاضل عبدالرحمن الصالح الشبيلي ليلم شعثهم، ويحفظ ذكرهم، ويشيد بعملهم؛ حتى لا تطويهم يد النسيان العاتية.
وكان المؤلف - أسبغ الله عليه لباس العافية - ينتقي من الأعلام ممن يمثل الفكر السعودي في وقته أصدق تمثيل، ويصوره أحسن تصوير، وعول المؤلف - حفظه الله - في تراجمه على الكتب التي كتبت عنهم، وعلى الصحف والمجلات والدوريات التي ذكرتهم وكتبت عنهم، كذلك على مؤلفاتهم التي كتبوها بإبداعهم وملكاتهم، وهذه المصادر هي التي يعتمد عليها أي مؤلف يكتب عن غيره، إضافة إلى هذا كان دائم السؤال عن أخبارهم وأحداث حياتهم، فهو كالآلة التصويرية لا تأتي على أخضر أو يابس إلا التهمته وصورته وأبرزته.
ومن خلال قراءتي في الكتاب لاحظت التوازن في شخصية المؤلف؛ فهو لا يؤثر قوماً على قوم، ولا يتعصب لأناس دون أناس، بل يضع المعلومات والحقائق في ميزان دقيق ليزن به القارئ مكانتهم، وليحكي الكثير من نبلهم ومآثرهم. والكتاب يقع في عدة مجلدات، بين يدي الأول منها، وهو من إنتاج مطبعة سفير - عمرها الله - لشهر صفر عام 1428هـ، ومقدمة الكتاب تحوي كلاماً جميلاً جاء فيها: (فالكتابة في السير والتراجم بشقيها: سير الذات وسير الغير، هي في الواقع ميدان فسيح من ميادين الأدب، له أصوله وأنماطه، وقد كتبت فيه دراسات وأطروحات، وعرفته الثقافة العربية منذ أمد بعيد، حيث تزخر بالمئات من الكتب التي سجلت سير الزعماء والمصلحين وطبقاتهم، وسبرت مكامن القوة في شخصياتهم).
وأما منهج كتابه هذا فيتمثل في قوله: (إن ما تتسم به هذه التجارب على اختلاف موضوعاتها من حيث الإطالة والعمق هو تجنب الإغراق في تفاصيل الحوادث وسهولة اللغة والتراكيب وبساطة الأسلوب مع الانعتاق من التشدد في شروط البحث الأكاديمي وقيوده، ذلك أن معظم تلك السير والتراجم قد أُعدت أساساً للنشر الصحفي، وكانت موجهة إلى جمهور المثقفين والمتخصصين، وإلى السواد الأعظم من القراء على حدٍ سواء). ثم يتحدث المؤلف - حفظه الله - عن تجربته العميقة في مجال كتابة التراجم الموجزة فيقول: (عندما التزمت لجريدة عكاظ في مطلع شهر شعبان عام 1424هـ - سبتمبر 2003م تحت عنوان (تحية وبعد) بكتابة سلسلة مقالات عن شخصيات تتفادى الأضواء وتعزف عن الظهور، مع أنها بلغت مكانة عالية - علمية أو عملية - في المجتمع، وقدمت جهوداً مشكورة في خدمة الوطن، وقد أفاد نشر تلك المقالات سلفاً في الصحافة في تلقي بعض التعليقات والتصويبات عليها، ومع الأيام صارت تلك الحلقات أكثر تفصيلاً وطولاً، وأصبحت تشمل شخصيات قديمة ومعاصرة، كما توسعت لتشمل جريدتي الحياة والشرق الأوسط ومجلتي الشورى والمجلة، وهي الحلقات التي تضمنها بعد جمعها كتابي هذا بعنوان أعلام بلا إعلام).
هذا، وقد ترجم المؤلف - حفظه الله تعالى - لثلاث وأربعين شخصية نابغة، زادها ثراء وقيمة تقديم معالي الدكتور القدير عبدالعزيز الخويطر لها، وهنا يختم المؤلف مقدمته بقوله: (وإذا كانت فكرة هذا الكتاب ومقالاته قد انطلقت من إبراز عينة من شخصيات في المجتمع السعودي، ظلت بعيدة عن دائرة الأضواء، وعازفة عن بريقها ووهجها، فإن كاتب التقديم الأخ د. عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر هو شخصية لا تختلف بالأسلوب والتواضع والعمق عن شخصيات الكتاب، بل لعله الأنموذج الأوضح لها، ومن هنا جاء اختياره ليتوج الكتاب بقلمه، فله كل الشكر على تجاوبه وعلى ما أهداه للمؤلف من أفكار).
وأفضل أنواع الكتابة وأكثرها بلاغة - على حد قول المؤلف - هو ما يصدر عن عاطفة مهما بلغ احتراف المؤلف وقدرته على الصياغة والتعبير. وتراجم الكتاب شافية وافية، يقدم لها المترجم - حفظه الله - بكلمة أدبية ماتعة، ثم يثني بمولده وتعليمه وأدبه وكتبه، أي المترجَم له، كل ذلك بتقصي شديد جداً، أقرب ما يكون إلى الإيجاز منه إلى الإطناب، ثم يتقصى بشكل عميق دقيق أيضاً أطوار حياة المترجَم له، مع التركيز التام على سير المترجَم لهم، واختيار الأهم قبل المهم من قادة العلم والفكر والإصلاح والسياسة والدبلوماسية والإعلام والاجتماع والاقتصاد والإدارة ورجال الأعمال. هذا، ولم تقتصر التراجم على الرجال، بل شملت امرأتين، الأولى: هي سارة الفيصل بن عبدالعزيز، والثانية: هدى بنت عبدالمحسن الرشيد. ومن خلال القراءة في الكتاب تبدت لي نظرات قوية وجريئة وشجاعة جاءت ضمن تراجم هؤلاء الأعلام، ثم قراءة المؤلف - حرسه الله - في كتب المترجَم لهم ونتاجهم العلمي والأدبي والمعرفي، قراءة استقرائية جادة لا تقتصر على عَلَم واحد دون غيره. والمؤلف تجمعه صداقات ومودات بكثير من أعلام كتابه، لكن الصدق والحقيقة والواقع هو ديدن المؤلف - حماه الله - من ذلك قوله عن الدكتور رضا بن محمد سعيد عبيد: (تأخرت هذه الزاوية في الكتابة عن شخصية د. رضا عبيد أملاً في أن تأتي كلماتها معتدلة منصفة تتحرى الموضوعية وتحيد عن المشاعر الشخصية). وبما أنه كان بينهما هذا العقد القوي من الصداقة كنت أتمنى على المؤلف أن يتحفنا ببعض مراسلاتهما ليدرك القارئ عمق الصداقة، وقوة العلاقة ليأنس القلب، ويستأنس الوجدان.
وتختلف تراجم الكتاب طولاً وقصراً حسب حجم الزاوية من ناحية، وحسب المعلومات المتاحة للمؤلف من ناحية أخرى.
وفي الكتاب تحليلات نفسية دقيقة كاليتم يصنع النبوغ، كما توجد معلومات كثيرة فطن لها المؤلف وغفل عنها الكثيرون، ثم هو شديد التتبع للحظات الكتب وقلوب المؤلفات ليبحث عن الحقيقة، وإن وجدها فهو أحق بها. لكن هناك شخصيات لم يجد لها إلا معلومات نادرة، ورغم هذا فإني أراه صاغ تراجم جميلة من معلومات قليلة ودقيقة، وكان يدعو الباحثين لدراسة هذه الشخصيات أو بعض منها. ويخيل إليّ من تعقيبات المؤلف على تراجمه أنه كان شديد التمعن في كتب الأعلام الذين ترجم لهم، ويراودني إحساس قوي بأن المؤلف طلعه علم ونحلة أدب، فهو يقرأ كتب شخصيات كتابه قراءة وافية، ومن هنا جاءت عروضه وتعقيباته النقدية مرتكزة على دعائم صلبة، فهو ناقد من الدرجة الأولى، وتراجمه لأعلامه خير دليل على قولي هذا، وليته أمتعنا بتوسع في عروض الكتب حتى لو كانت قصيرة، فما لا يدرك جله لا يترك كله. ولفت نظري دقة التوقيت؛ فهو يطرز أحداث كتابه بالتاريخَيْن الهجري والميلادي. وجانب الشعر له حضور في الكتاب؛ فهناك أناس في الكتاب لا يُعرف عنهم شدو الشعر، فأورد بعضاً من ترانيمهم، لكن نفوسنا سمت للمزيد، وتاقت للكثير.
وأخيراً، فهذه الشخصيات منهم من باد ومنهم ومن بقي على قيد الحياة، وفي حواشي المؤلف تعقيبات توضح هذا، حتى أنه كان يدبج في محبيه مقالات عديدة. وفي رأيي المتواضع أن هذه المقالات لو ضمت إلى تراجم الكتاب لكان أنفع وأسهل على القارئ التزود منها والنهل من معينها المتدفق، ثم هو أحفظ لها.
حفظ الله المؤلف وخلّد ذكره، كما حفظ رجالاً من أفذاذ زماننا وخلّد ذكراهم في محياهم ومماتهم.
قراءة - حنان بنت عبدالعزيز آل سيف