Al Jazirah NewsPaper Sunday  24/02/2008 G Issue 12932
الأحد 17 صفر 1429   العدد  12932
درس (شريعة فوبيا) لطلاب التبعية الغربية!
محمد بن عيسى الكنعان

تناقلت وسائل الإعلام المختلفة خبر تصريح الدكتور روان دوجلاس ويليامز (المولود عام 1950م) كبير أساقفة كانتربري وزعيم الكنيسة الانجليكانية (الكنيسة الرسمية ببريطانيا)، وهو الخبر الذي أحدث ضجة كبيرة ولغطاً ما زال سارياً في الأوساط الإعلامية والسياسية والدينية في المملكة المتحدة....

....حتى ارتد صداه على دول العالم بين مواقف التأييد والاستهجان أو التزام الحياد، بما في ذلك الوطن الغربي بحكم أن طبيعة الخبر لها صلة بمباشرة به، كون الأسقف (اقترح) في ثنايا تصريحه تضمين القانون البريطاني بعض بنود الشريعة الإسلامية، لأنه أمر لا يمكن تجنبه، وأن النظام القضائي البريطاني سيتعين عليه يوماً ما أن يعترف ببعض جوانب الشريعة الإسلامية، وذلك بقوله: (إن على بريطانيا أن تواجه حقيقة أن عدداً من المواطنين لا يعتمدون كثيراً على النظام البريطاني)، وكذلك قوله: (إن تطبيقاً جزئياً لبعض جوانب الشريعة الإسلامية قد يساعد على بلوغ انسجام اجتماعي).

لم يكن كبير الأساقفة جاهلاً في الإسلام ومدى ارتباط واقع المسلمين به، خصوصاً مسلمي بريطانيا الذين يعتبرهم مواطنين بريطانيين أمام القانون وعلاقة ذلك بالحياة البريطانية الليبرالية، بل هو مطلع على مضامين الإسلام ولديه قسط من المعرفة في الفقه الإسلامي، لهذا كان محدداً في تصريحه بشأن جوانب الشريعة التي يقصدها، عندما فصل بين شؤون المسلمين في مسائل (الأحوال المدنية) من زواج وطلاق وميراث وخلافه، وبين (العقوبات في الشريعة الإسلامية) التي تتعارض مع قانون بلده وتواجه موقفاً رافضاً في العقلية الغربية عموماً لأنها تقاس بما كانت عليه أوروبا زمن عصورها الوسطى المظلمة، كذلك لم يكن أسقفاً عادياً متوارياً في ظلام كنيسته، بل هو في حقيقة الأمر مفكر أقرب إلى الفلسفة، وعلى درجة عالية من الوعي بالواقع العالمي ككل، وهذا يفسر حضوره الفاعل في القضايا الأوروبية والدولية، خصوصاً ذات الصلة الوثيقة بالسياسة البريطانية، كوقوفه المعلن ضد الحرب على العراق على سبيل المثال لا الحصر.

الضجة التي أشرت لها.. أثارتها وقادتها وسائل إعلام بريطانية (ليبرالية) ترفض رفضاً قاطعاً الفكرة، بل وتطعن في الشريعة الإسلامية بطريقة غير مباشرة، من خلال شخصيات سياسية ودينية وإعلامية، وجهّت للأسقف نقداً عنيفاً لدرجة الدعوة إلى فصله، فلقد سارع مكتب رئيس الوزراء البريطاني بتصريح جاء فيه: (إن القانون البريطاني فقط هو الذي سيطبق في بريطانيا وهو جزء من تقاليد المجتمع البريطاني)، كما وجه السيد ديفيد بلانكيت وزير الداخلية السابق وأحد قيادات حزب العمل نقداً ينطوي على غمس الشريعة بقوله: (إن تطبيق بعض قوانين الشريعة الإسلامية في بريطانيا يمثل كارثة على سياسة الاندماج الاجتماعي)، كما صرح زعيم حزب المحافظين المعارض السيد ديفيد كاميرون بقوله: (إن تصريحات ويليامز ليست مناسبة) وهو تصريح مقارب لما قاله السيد أندي بورنهام وزير الثقافة البريطاني: (إن وجهة نظر الأسقف ليست صحيحة)، والحال بالنسبة لوسائل الإعلام والكتاب لم يكن بأحسن من موقف السياسيين، فردة الفعل كانت قوية وحادة حتى أن صحيفة (الصنداي تايمز) قالت على لسان الكاتبة مينيت مارين: (أيها الأسقف لقد ارتكبت خيانة)، وقد أشارت الصحيفة إلى أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قد أعلنت في عام 2001م أن الشريعة الإسلامية تختلف عن القيم الغربية الأوروبية، كذلك كتبت الصحافية مادلين بانتينج في صحيفة (الجارديان) مقالاً حمل عنوان: (تمرد ولكنه طائش!)، كما حذر الكاتب الشهير ماثيو باريس من الأسقف واصفاً إياه أنه خطير ويجب مقاومته، وغير ذلك كثير مما حفل به الطوفان الإعلامي الغاضب والهادر على تصريح الأسقف روان ويليامز، أما رجال الدين البريطانيون فقد تجاوزوا مناقشة التصريح إلى حد المطالبة بفصل كبير الأساقفة، فهذا الأسقف إدوارد أرمستيد عضو المجمع الكنسي يصرح لصحيفة الديلي غراف بقوله: (لا أعتقد أن الأسقف ويليامز هو الرجل المناسب لشغل هذه الوظيفة).

على خلفية هذا الحدث الكبير تأتي الأسئلة الاستنكارية، عن أعرق الديمقراطيات في العالم أين غابت؟ وعن مهد الليبرالية الغربية التي قررت قيمة (الحرية) بأدناها حرية التعبير إلى أعلاها الحرية السياسية.. أين توارت في خضم النقد الحاد الذي ضاق ب(اقتراح) ضمن (تصريح) عن واقع الجالية المسلمة البريطانية فصار (الفصل) و(الإقصاء) مكان (النقاش) و(الحوار)؟ هل السبب أن الإشارة للشريعة يعني الإشادة بها، والشهادة بموافقتها لروح العصر والقانون وصلاحيتها في النظام القضائي، خصوصاً من رجل دين يُعد كبير الأساقفة؟ هل تحول الخوف من الإسلام (ديناً) إلى الخوف من (شريعته) تحت مسمى جديد هو (شريعة فوبيا)؟ هل يخاف الغرب أن تزاحم الشريعة بقيمها العليا وأحكامها الاجتماعية العادلة، التي هي في أصلها (دينية) القيم الغربية الليبرالية التي هي في أصلها (وضعية) في مجمل الحياة الأوروبية، عندما تدخل في أنظمتها القضائية كقواعد تشريعية للناس أو إجراءات تنظيمية للحياة - حتى لو كانت لفئة معينة من الشعب وهي (الجالية المسلمة) - خصوصاً أن الإسلام أكثر الأديان انتشاراً ومساجده الأكثر ارتياداً، وأن النظريات والحلول المصرفية الإسلامية صارت تلقى رواجاً في النظم الاقتصادية الغربية وهي مستمدة من هذه الشريعة الإسلامية.

لست متطلعاً لمعرفة أجوبة الأسئلة السابقة من قبل الغربيين، سواء ممن ركب موجة نقد الأسقف روان ويليامز وأشعل نار الغضب ضده، أو ممن كان عكس ذلك أو التزم الحياد، لأن الموقف الغربي العام والسائد إزاء الظاهرة الإسلامية بكل تجلياتها على مستوى العالم معروف سلفاً وهو موقف بعيد عن الموضوعية، ولكن ما أتطلع لمعرفته حقيقةً هو موقف (طلاب التبعية الغربية) ودعاة حضارتها وقيمها، الذين طالما أكدوا أن خلاص أمتنا من مأزقها الحضاري الراهن يكمن باقتفاء أثر الغرب واستلهام تجربته الحضارية، من خلال استيراد فلسفاته المادية ومناهجه الفكرية الوضعية، وتبني قيمه الإنسانية ومبادئه المدنية، أولئك أين هم من هذه الغضبة الإنجليزية العامة بإعلامها وساستها ورجال دينها على كبير أساقفتهم؟ الذي اعتبر أنه مس التوجه العلماني العام للأمة البريطانية وهدد مرجعيتها الليبرالية، أين هم لم نسمع لهم صوتاً أو همساً؟ لماذا يستغربون علينا دفاعنا المستميت عن الفكر الإسلامي إزاء أي دعوة أو فكرة تحاول علمنة مبادئه أو اختراق ثوابته؟ لماذا يستنكرون أي موقف تتخذه المؤسسة الدينية إزاء الأفكار الجديدة والدعوات المستوردة التي يراد لها أن تبُدّل في حياتنا؟ دفاعنا المشار إليه أو موقف المؤسسة الدينية يبدو مقبولاً ومعقولاً أيضاً إذا كانت (الليبرالية البريطانية) قد ضاقت باقتراح الأسقف ولم تعتبره (رأياً) يأخذ مساحته الفكرية وانتشاره الاجتماعي بما تكفله قيمة الحرية التي تتغنى بها هذه الليبرالية الانتقائية، إذاً فليكفوا عن الصراخ فلكل أمة أو دولة مرجعيتها وثوابتها وقيمها.





















kanaan999@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد