أن تبحث لك عن أصل، ثم تدفع الغالي والنفيس، لإثبات أنك تنتمي إلى أرومة عربية هو ضرب من ضروب التخلف. مثل هذه الاهتمامات لا يمكن أن تجدها إلا عند من يشعر في أعماقه بمركب نقص. قيمة الإنسان يكتسبها بشخصه وتميزه وعمله وإنجازاته، وليس بسبب مؤداه أن حيواناً منوياً لقح بويضة أنثى فكانت النتيجة أن ولد هذا (الابن) لذلك الأب وتلك الأم؛ فأي فخر - بالله عليكم - لإنسان جاء نتيجة لهذا (التلاقح) الطبيعي الذي لا علاقة له شخصياً بمجرياته؟
والتفاخر بالنسب، والاتكاء على الأصل والأرومة، والاعتداد بها، هي حيلة العاجز، الذي ليس لديه ما يفاخر به ويعتد إلا (العرق) الذي اكتسبه دون أن يكون له دخل في ذلك. وسواء كان عرقاً رفيعاً أو عرقاً متدنياً (نظرياً) فكلا الأمرين سيان؛ فمن الثابت أن الأنساب - في الغالب - خرافة، تعتمد على أسطورة شفهية في أصولها، ولا يمكن لأحد أن يثبتها علميا؛ بل على العكس من ذلك، فإن إثبات أنها (خرابيط) أسهل من إثبات أنها حقيقة.
والتفاخر الأنساب، من مذمومات الدين. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وقال المفسرون: إن هذه الآية نزلت في ذم التفاخر بالأنساب. ويقول صلى الله عليه وسلم: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه). وقال - أيضاً - للمهاجرين والأنصار حينما تنادوا يا للمهاجرين ويا للأنصار في أمر حدث بينهم، فاستغاث كل بقومه: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة). وقد حصر الإسلام المندوب في علم الأنساب بما يفضي إلى صلة الرحم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم).
وعندما نكرس ثقافة الاعتداد بالأرومة والاعتزاز بالنسب، ونسمح بها كقيمة (معيارية) اجتماعية يمكن أن يتميز بها هذا الفرد عن الآخر، فإن ذلك سيؤدي بالضرورة إلى خلق جيل يتكل على من يكون أجداده لا من يكون هو ذاته؛ وبدلا من شحذ همم التفوق والتميز لدى الشباب خاصة فإننا نوفر لهم قيمة (وهمية) تجعلهم يعتمدون عليها، فيضعف فيهم دافع الرغبة في التفوق والتميز والاختلاف الذي هو الجذوة الأولى التي تشعل روح الإبداع في المجتمعات.
وكنت أظن أن التعليم، والوعي، والاحتكاك بالأمم المتحضرة، كفيل بذوبان هذه العادات القميئة والمتخلفة في مجتمعاتنا، وأن المسألة مسألة وقت، وأننا كلما اقتربنا من (المدنية) ضعف مثل هذا الشعور الأقرب إلى البدائية. غير أن الاهتمام بالأنساب أراه - للأسف - يتزايد عن ذي قبل في مجتمعنا. وقد ذكر لي أحد الطلاب السعوديين المبتعثين إلى أمريكا أن الطلاب السعوديين هناك تتكون شللهم - في الغالب - على أساس قبلي، فكل قبيلة تستقطب المنتمين لها، لتتكون (الشلة) من أبناء القبيلة الواحدة، وكأنهم يعيشون في صحاري وجبال المملكة، وهذا مؤشر يؤكد أن التنمية البشرية لدينا ليست (متكلسة) فحسب، وإنما تراجعت عن ماضينا القريب والقريب جدا. طالما الشباب بهذه الصورة من العقليات والمعايير المتخلفة.