لابد أن هذه هي المرة الأولى التي تقرأ لي فيها في هذه الصفحة، إذ حقاً هي المرة الأولى التي أكتب فيها هنا!
يجب أن تكون قادراً على تحمُّل الكثير من الاختلاف أو التوافق، كما قد تصدمك بعض أساليب الكتابة غير المتوقعة من مجتمع الكاتبات المحتشم، أو حقاً قد تجد أن الكثير من الأفكار المطروحة هنا قد تكون مثيرة للغثيان والملل وما عليك هنا سوى أن تقلب الصفحة وتلوم مَن دعاني للكتابة في هذه المساحة!
* ماذا أعتزم أن أفعل؟؟
أول الجنون المسموح به للكاتب في العادة هو أن تنسى من أنت، إذ إن أحد شروط الكتابة هو أن تتحرر من سلطة المحيط سواء كان عائلياً أو مهنياً أو شخصياً. وماذا سيكون إبداع الكتابة حقاً حين أتذكر وأنا أكتب أنني سأقيم من خلال العائلة أو صناع القرار في العمل، وهو ما يعني نهاية موجعة للطرح المختلف كما يعني رقصاً مشوهاً على بوقة الرضا الاجتماعي والرسمي، وهو الذنب الذي لم أقترفه لفترات طويلة من حياتي ولا نية لي لتغيير المسار.
كيف أكتب ذلك الآن؟؟ لأنني حقاً وفي هذه اللحظة على وجه التحديد أحلق على ارتفاع آلاف الكيلومترات في طائرة تتأرجح بشكل مخيف فعلاً إلى الدرجة التي طلب منا قائدها ربط الأحزمة والتزام المضيفات بمقاعدهن.
ومع هذه المرجحة المخيفة في قلب السماء وأنا أمثل دور الشجاعة أحاول جاهدة الغرق معكم في كتابة أعشقها وأنا متجهة إلى لوس أنجلس في الولايات المتحدة لحضور مؤتمر عالمي في تخصصي.
إن رحلةً كهذه ليست كفيلة بتجديد دماء المعرفة والتخصص (وتشكر فعلاً جامعة الملك سعود على تحمل بعض النفقات وإعطاء الأستاذ الوقت الكافي لذلك، كما قد لا يتوافق مع معايير المؤسسات البيروقراطية.. وجامعتنا إلى وقت كبير كانت أحد الممثلين البارزين لهذه المؤسسات وهي تحاول والحمد الله التحرر منها الآن).
أشعر أن رحلة كهذه أيضاً قادرة على إزاحة الغبار والتلوث الفكري والعقلي الذي نقع ضحاياه بطول الاستخدام للمنتجات الفكرية المحلية! كما أنها قادرة على التلاعب بكل هذه الأكوام الهائلة المتراكمة من المحاذير الاجتماعية والرسمية التي نقع أسرى لها دون وعي متى وطئت أقدامنا أرض الوطن الحبيب!
* ماذا تحبون الحديث حوله؟؟
أستطيع التحدث في أمور كثيرة كما أن عملي كأستاذة علمني حتى درجة عالية من الاحتراف كيف تقنع من أمامك أن هناك موضوعاً مهماً ومثيراً وهو حقاً ليس كذلك!!
ألسنا مجبرين كمعلمين ومعلمات وملقنين وملقنات على تدريس مواد وموضوعات لا علاقة لقناعاتنا أو رؤيتنا بها وهو أمر يحدث كل يوم، ومن ثم فقد تشكلت لدي قدرة مجنونة على الاحتفاظ بالمستمع حتى رغم أنفه (فالطالبات ملزمات بالهدوء للحصول على الدرجة.. كما أنك ملزم بإنهاء هذا العامود لأنك تورطت منذ البداية في قراءته).
أمر آخر أجده على درجة من الأهمية لنتحدث حوله ونتفق.. وهو المحاولات المستمرة لمن كتب التاريخ النسوي وخاصة العربي منه بإقناعنا بأن النساء يتميزن بالثرثرة.. والثرثرة تعني الحديث الزائد عن اللزوم الذي لا جدوى منه، ومن ثم فقد كان يحلو لي فعلاً تعذيب المستمعين لي من إخوة وأقرباء استجابة لهذه المقولة.. لكنني بعد تفكير طويل وبعد خدمة لا بأس بها في مؤسسة الزواج، وبعد حضور العشرات من المؤتمرات والندوات حول العالم اقتنعت بأننا وقعنا كنساء ضحايا لخدعة فظيعة اسمها التفوق اللفظي للرجل مقابل الثرثرة الفارغة للنساء!
من هنا ومن باب أننا نرد بضاعتكم إليكم أنوي وبإصرار نسائي يراه الرجال في العادة أمراً مبالغاً فيه ولا يتناسب مع المعايير المطلوبة للمرأة أن أتحدث وأتحدث كما يحلو لي وبما أراه.
** «الجزيرة» كانت مرفئي الأول حين بدأت الكتابة في زمن قصي لا أتذكره الآن. رئيسها الحالي كان آنذاك رئيسنا أيضاً وهو بالمناسبة مسؤول بشكل مباشر في توريطكم بهذه الكتابة، فهو أول مَن فتح أبواب وصفحات «الجزيرة»لمراهقة تئن تحت وطأة الضغط الاجتماعي، ولولا انه فعل ذلك آنذاك لربما لم أخلق ككاتبة ولربما تراجعت برد سلبي فأنا لم أعرف نفسي ككاتبة.. كنت فقط أحمل هماً اجتماعياً وسياسياً ولا أزال، وفتح خالد المالك الأبواب وتحمل الكثير لحمايتي من كل الأطراف، وها هو مرة أخرى يمارس ذات الخطيئة ولكن في مناخ أفضل بكثير مما كنا عليه آنذاك،
لهذا تأخذ العلاقة مع الجزيرة كجريدة شكلاً روحياً خالصاً. أتذكر محاولات القفز الأولى إلى عالم الكتابة. لم أكن معروفة بالطبع لكن عقلي كان يضج بالفكرة الألف وكنت بحاجة إلى وضعها على الورق والتواصل مع الآخرين حولها. وتجرأت على ذلك عبر صفحة الزميلة حصة التويجري التي كانت تحرر آنذاك صفحة كاملة في صحيفة الجزيرة. أثارت هي موضوعاً حول حقوق المرأة وأرسلت الرد وعقدت الدهشة لساني حين رأيت ردي منشوراً بالكامل دون نقصان. لم أصدق فهل يمكن أن أمنح كل هذه المساحة في الصفحة الأقرب إلى قلبي؟
كتبت عدة مرات ونشرت ثم بدأت في إرسال بعض القصص القصيرة إلى الصفحة الأدبية وكم كنت أصاب بالدهشة البالغة حين تنشر. كنت لا أزال أجرب نفسي وأرسل للجريدة. لم أكن أتوقع قبولاً بهذه المساحة لكن كان يجب أيضاً أن أعرف أن صوتاً نسائياً في ذلك الوقت كان سيكون مقبولاً في كل أحواله!
فعل الكتابة الدافق استحثني حتى اليوم وما زال وهاأنذا أعود مرة أخرى إلى أحضان الجزيرة.. وأنا أدعو الله أن أكون أنا دائماً ونصب عيني أمران ولهما ثالث:
أتمنى أن لا أقع في الخوف من أرباب الحكومة، كما أتوسل إلى الله أن يرفق بي الرقيب الذي لا أعرفه في الجريدة وقبلاً أتمنى أن لا أخضع للضغط الاجتماعي المتوقع بعد أن تنتشر الفضيحة بما يمكن أن يناقش هنا!
سنلتقي قريباً.. وهنا أسألكم ماذا تودون الحديث حوله؟؟ أم ستكونون مرغمين على قبول وجبتكم الحتمية التي أقدمها دون فرض شروطكم كقراء؟؟
لننشد مع شاعرنا المصري حجازي قوله:
قد كنت فارساً شجاعاً ذات يوم
لكني أكلت من طعام أعدائي فصرت مقعداً
وكنت شاعراً حكيماً ذات يوم
حتى إذا استطعت أن أحمل اللفظين معنى واحداً
فقدت حكمتي وضاع الشعر مني بددا